كنا أشرنا سابقا إلى صدور كتاب الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو «الدفتر» الذي يجمع فيه بعض الذي كتبه بشكل يومي في مدونته الالكترونية، (حيث قدمنا عرضا له). وبمناسبة صدور الترجمة الفرنسية من هذا الكتاب أجرت «المجلة الأدبية» (الماغازين ليتيرير) الفرنسية حواراً مطولاً مع الكاتب في عددها الأخير، تحدث فيه ساراماغو عن جملة من القضايا التي تتعلق بالكتابة، كما عن مفهوم الالتزام، وعما يرتجيه من الكتابة، مميزا بين مواقف متعددة. هنا ترجمة لبعض المقتطفات من هذا الحوار، نظرا إلى ما يتضمن من أفكار جديرة بالمناقشة، وبخاصة أن أحد الروائيين القلائل الذين لا زالوا يثيرون الكنيسة الكاثوليكية لما تتضمنه كتاباته من «تحريض». كتابك الذي يصدر اليوم في فرنسا هو مجموعة مختارة من النصوص التي كتبتها ونشرتها على مدونتك. ما الذي يضيفه الانترنت إلى شكل الكتابة، إلى كتابة اليوميات التي تمارسها منذ فترة طويلة؟ { غالبا ما تكون الأشياء أبسط بكثير مما نتخيلها. لم تكن فكرتي أنا بإنشاء مدونة، وإنما هي فكرة بيلار، زوجتي. بدأت بمقاومة هذه الفكرة، إلا أن حججها أقنعتني في نهاية الأمر. لقد أنشأنا مؤسسة، هي رئيستها، وبما أننا لم نعد نستطيع أن نكون خارج الزمن الذي يمر، افتتحنا موقعا على الانترنت. خلال سنة، كنت اكتب فيه بشكل شبه يومي. كتبت بدون انضباط ولا أعتقد أني سأعود إلى هذا الأمر. لكن من يعرف؟ إذ من غير الحذر أن نراهن على المستقبل. بدأت خطاب ستوكهولم بهذه الجملة: «إن الرجل الأكثر حكمة الذي عرفته كان لا يجيد القراءة ولا الكتابة» وكنت تستدعي بذلك جدك الأمي. هل يعني ذلك، بالنسبة إليك، أن بعض أشكال المعرفة وحتى العلم منفصلة عن الكتابة؟ { يعطينا التاريخ الجواب على ذلك. بداية، علينا أن نذكر أن الإنسانية، الإنسانية بأسرها، قد بدأت بشخص أمي. بهذا المعنى، إن طفلا يولد اليوم إنما يولد ما قبل التاريخ. وما إن اخترعت اللغات، توجب علينا الاستمرار في الاختراع، عبر كتابتها. لقد تتابعت هذه السيرورة. على أمل أن لا يصبح الانترنت عامل فرملة. إننا نعيش في حقبة يتراءى لنا فيها أنه لم يعد من الضروري أن نتعلم كي نعرف، وعلى غرار العديد من الأفعال الأخرى حيت أصبح الارتجال غير المسؤول يشكل القانون – وهذا ما نجده في جميع التعابير الفنية – نجد أن الانترنت هو المكان الذي يقدم فيه الجهل التام وكأنه مثال يحتذى به. إننا على طريق أسطرة الانترنت. ما بعد نوبل ألقيت خطاب ستوكهولم هذا خلال الاحتفال بتسلم جائزة نوبل، وقد ذكرت فيه المسؤولية الإضافية التي شعرت بأنها تلقى على كاهلك. هل هناك، في حياتك، مرحلة «ما قبل»، و«ما بعد» نوبل».؟ { جميع الكتاب، حتى وإن أنكروا ذلك، يحلمون بجائزة نوبل. لم أكن أشكل استثناء في ذلك. من هنا يشكل «الما قبل» و«الما بعد» أمرا لا مناص منه: إذ تكثر الأحاديث والترجمات والسفر والمقابلات. حين تحدثت عن مسؤولية أكبر، فأنا كنت أشير بشكل خاص إلى أنها المرة الأولى التي كانت فيها الجائزة تمنح إلى كاتب يكتب اللغة البرتغالية. أعتقد بصدق، وبدون تواضع مزيف، أنه خلال ال 11 سنة الأخيرة، كنت على مستوى المسؤولية. لذلك يمكنني أن أؤكد بأن هذه الجائزة لم تحدث أي تغيير في الشخص الذي كنته. وهذا ما أستمر عليه. في الواقع أنت تمارس هذه المسؤولية منذ بدايتك في الكتابة، وبخاصة عبر قوة «اللا» (الرفض) التي تضعها مقابل كل أشكال اللاعدالة واللامساواة والهيمنة. هل تشعر بأنك بذلك تستمر في صورة الكاتب الملتزم؟ { يؤكد العديد من الكتاب، وبدون مواربة، بأن عملهم (الأدبي) هو شكل الالتزام الوحيد. وأهميتهم المحتملة بصفتهم كتابا لا تعفيهم من نيات مماثلة. كأن تقول مثلا: «أنا في هذا العالم لكني لا أنتمي إليه» قد يكون من المفيد تحليل الإستراتيجية الإيديولوجية التي قادت إلى اندثار الالتزام المنهجي. ولو كانت لدي مواهب عجائبية لبعثت نفسي كاتبا فرنسياً، بدءا من كامو وسارتر. لقد أصبح من نافل القول الطلب من المواطنين العاديين الالتزام تجاه المجتمع. من هنا علينا القول للكتاب أيضا بأننا لا نستطيع أن نسمح لأنفسنا بأي فصل – مهما كان شكله – بين الكتاب الذين نحن عليهم وبين المواطنين الذين يمكن لنا أن نكف عن كوننا كذلك. رغبتك في التأثير في العالم، تظهر أيضا في رواياتك عبر المجازات التي تنحو على شد القارئ لرؤية ما يكمن ما وراء المظاهر. هل يتبدى ذلك على أمل التحريض في تغيير تصرفاتنا كما على أمل تصحيح المستقبل؟ { أجل، لكن ولكي نصل إلى هذا الهدف، علينا أن نعي بوضوح أن الكتاّب لا يكفون لذلك. أحب أن أعتقد أن بعض أعمالي تمارس تأثيرا إيجابيا على نفسية القراء، إلا أنني واضح كفاية كي أقبل أن تأثير هذا الفعل لا يصل أبعد من سطح الكائن، واعذروا لي هذا التعبير. لقد كثفت بجملة واحدة ما أفكر به حول هذا الموضوع: «لن نغير الحياة إن لم نغير الحياة». حتى وإن كنت سأبدو ساذجا، أجرؤ على القول إنه من الضروري والملح أن نعيد الطيبة إلى العلاقات الإنسانية. لكن ولكي نستطيع القيام بذلك، من الضروري والملح أيضا أن نفضح بشكل جذري كل العوامل التي تعيق هذه التحولات، العوامل الاقتصادية والسياسية والدينية والثقافية... سيقال إنه يجب على المتشائم البنيوي الذي أنا عليه أن يظهر نفسه أكثر تفاؤلا. ستعلو وجوه الخبثاء ابتسامة التفوق. هذا هو عملهم. كثيرون هم الذي يقبضون أجر القيام بذلك. حياة بسيطة غالبا ما تكون الأوضاع التي تكتبها أوضاعا عامة: في «الطوف الحجري»، نجد أن مجموعة شبه الجزيرة الأيبيرية تنحرف باتجاه الجنوب؛ في رواية «العمى» نجد أن الإنسانية بأسرها تصاب بالعمى؛ في «تناوب الموت» لم يعد أحد يموت؛ في «الوضوح» 83 بالمئة من شعب ما صاروا يضعون أوراقا بيضا خلال عمليات الاقتراع. كما لو أن العمل الجماعي هو الذي يمكن له أن يستفيد من ذلك. هل تضع الفردانية موضع الشك بكونها خطأ في مقابل مبدأ المسؤولية؟ { لا تنقص قصص الحب رواياتي، بيد أنني لم أقترح يوما كتابة قصة حب. بأن يلتقي أنطونيو بماريا، بأن بقع في غرامها، كما أن تقع هي في غرامه. بأن تتأرجح علاقتهما، بأن يشعرا بالسعادة أو بالتعاسة. ما من شيء مدهش في ذلك كله، وهذا أمر لا يهمني ككاتب. ما يهمني، هو الشخص الذي يتعرض لمواقف، الناس الذين يأملون بحياة بسيطة، روتينية، والذين – فجأة وعقب حادث طارئ – يضطرون إلى تبديل تصرفاتهم. هذه هي حال، على سبيل المثال، السيد جوزيه في رواية «الأسماء كلها»، وريموندو سيلفا، المصحح في رواية «قصة حصار لشبونة». يمكن أيضا لأزمة فجائية أن تثيرني بقدر ما يمكن لها أن تتحول إلى استجواب، كما لو أنه يمكن لهذه الأزمة أن تتحدث وأن تسأل الشخصيات «من أنتم»؟ إنها الكائنات التي تهمني، إلا أنني أكره الفردانية بكونها مصدر شرور تتألم الإنسانية منها. التمييز إذا بين الدراسة والرواية هو تمييز واه بالنسبة إليك، فالعنوان بالبرتغالية لكتاب «العمى» هو Ensaio sobre a cegueira («بحث حول العمى») . { ليس الأمر حكرا على هذا الكتاب فقط ولكن أيضا في Ensaio sobre a lucidez (بحث حول الوضوح) الذي ترجم إلى الفرنسية بعنوان الوضوح. غالبا ما قلت: «أكتب روايات لأنني لا أعرف كيف أكتب أبحاثا». لا يمكن لي أن أكون أكثر صراحة وأوضح من ذلك. أنا حامل لرغبة تربوية، تأملية، إذا فضلت ذلك، لم أشعر بالاكتفاء الكامل. فكرت أحيانا في أنني كان يمكن لي أن أكون مدرسا جيدا، لكن بخلاف ذلك، اكتفيت بأن لا أكون كاتبا سيئا. من كتاب إلى آخر، نجد أن شكل الكتاب عندك يختلف اختلافا كبيرا: المثال الواضح على ذلك «الدفتر» و«رحلة الفيل». مع «رحلة الفيل» تعود إلى أسلوبك الروائي الخاص: إنه يحيل الصفحة مكثفة جدا إلا أن القراءة تبقى منسابة جدا. كيف تقيم هذا التقسيم؟ { المقالة، وإلى حد ما «المدونة» تكتب بلغة يومية، أما الرواية فهي مثل القصيدة تبني نفسها بلغة تخترع نفسها كلما تقدمت. الصفحة التي تستغرق مني وقتا طويلا، التي تتطلب عملا أطول، هي الصفحة الأولى. علي أن أجد ودفعة واحدة، النبرة التي تناسب القص، وهذا ليس بالأمر السهل. في حالتي، أعتقد أنه يمكن لي أن أقول إنني أبدأ بالسقف حين أبني منزلا. الشرط الأساسي لذلك: عليّ أن أستمع، في رأسي، إلى الكلمات التي أكتبها. بشكل ما، أكتب كي أُسمع. موت المؤلف في رواياتك، تعطي دورا خاصا للراوي، الذي يتدخل بشكل مباشر، الذي يعطي مسافة ما، مسحة فكاهة في هذه التراجيديا. هل هي طريقة ما للتأكيد على حضور الكاتب؟ { أمضيت عمري وأنا أعلن أن الراوي غير موجود. منذ سنوات، كنت مدعوا إلى مؤتمر دولي في جامعة إدمنتون، في كندا. وعند وصولي، وضع أمامي كتيب يجمع كل المداخلات. بدأت قراءتها، فوجدت أمامي كلمة الراوي عشرات المرات، وما من مرة واحدة كلمة مؤلف. تذكرت عندها بارت الذي بشر بموت المؤلف. كان لدي الدليل على هذا الموت الحزين بين يدي: بالنسبة إلى مئات أساتذة الأدب الذين جاءوا من مختلف القارات لقد توقف المؤلف عن الوجود. روايتك الأخيرة، «قايين» التي صدرت حديثا في البرتغال، أثارت العديد من ردات الفعل، العنيفة حتى. هل كنت تتوقع ذلك؟ { اعتدت أن تتدخل الكنيسة الكاثوليكية في ما أكتبه، لكن في حالة «قايين»، على اعتبار أن الرواية لا علاقة لها «بالعهد القديم»، كنت أنتظر ردة فعل شكلانية، أي فقط كي لا تبقى (الكتيسة) صامتة. لم تجر الأمور على هذا الشكل.الأساقفة واللاهوتيون البرتغاليون قفزوا عليها بسرعة تشبه سرعة كلاب بافلوف حين كانت تسمع الجرس. صحيح أني أثرتهم حين قلت في بعض المقابلات الصحافية إن التوراة، «كتاب عادات سيئ» وإنه يجب عدم إعطائه للأطفال كي يقرؤوه. اتهموني بأني قمت بقراءته قراءة عرضية، فأجبتهم بأنه للقيام بقراءة رمزية، علينا إجلاس عالم لاهوت بالقرب من كل قارئ مؤمن أو من أي قارئ فضولي بسيط. في نيسان أو أيار المقبل، سيصدر الكتاب في إيطاليا. فضولي كبير. عن السفير الثقافي