"وأخيراً وصلتنا الحكاية: حكاية الحب العظيم بين الإنسان والكتب»، هكذا علقت جريدة «لاريبوبليكا» الإيطالية، على كتاب «تاريخ القراءة» لألبرتو مانغويل، هذا العمل الذي يغوص فيه مانغويل في تفاصيل عملية القراءة وكل ما يتعلق بها أو يدور في فلكها، ومانغويل لا يقدم في كتابه هذا تقنيات القراءة أو كيف نقرأ أو ماذا نقرأ، وإنما يطوف عبر الزمن من خلال سرد جميل وسلس، ليحكي قصة القارئ منذ ظهور أول نص مكتوب، وتفاعل الإنسان مع عملية القراءة كفعل إبداعي صرف. هو إذن يقدم القارئ كعنصر أساسي في تحليل وتفكيك النص وإعادة بنائه من جديد، هذا ما تؤكده مقدمة الكتاب بقول مانغويل: «إن التاريخ الحقيقي للقراءة هو في الواقع تاريخ كل قارئ مع القراءة». تجارب الطفولة يبدأ مانغويل بتاريخه هو مع القراءة وكيف تكوّن حبه الجم للقراءة، حيث يروي تجاربه الأولى، فيقول: «في الطفولة كان مكان القراءة المفضل لدي هو أرضية غرفتي الصغيرة، حيث كنت أستلقي على بطني وقد ركزت قدمي الصغيرتين في أحد الكراسي، ثم سرعان ما أصبح السرير أأمن الأماكن لمغامراتي الليلية خلال الفترة الضبابية التي كنت أتأرجح خلالها بين اليقظة والخضوع لسلطان النوم، لا أستطيع أن أتذكر أبدا أنني كنت وحيداً في لحظة من اللحظات، على العكس تماما، فإن ألعاب وأحاديث الأطفال الذين ما كنت ألقاهم إلا نادرا، وجدتها أقل إثارة من المغامرات والأحاديث التي كنت أعيشها في كتبي". يرى عالم النفس جيمس هيلمان «أن الأطفال الذين يقرأون في سن مبكرة من العمر أو الذين يقرأ عليهم في هذه المرحلة العمرية يكونون في وضع نفسي أفضل ويستطيعون أن يطوروا مقدرات على التصور أفضل من أولئك الأطفال الذين تروى عليهم الأقاصيص والحكايات في وقت متأخر، وعندما يتعرض الأطفال إلى هذه القصص في سن مبكرة تؤدي هذه القصص مفعولها في صياغة حياة الأطفال وتطورهم» هكذا تصبح خبرات القراءة المبكرة من الأمور التي يعيش فيها الطفل ويحياها طريقاً تجد النفس ذاتها عبره، وتوسع أفق الخيال والاستعداد للابتكار ومحاكمة الأشياء بطرق مختلفة. مع بورخيس كان الكاتب الأرجنتيني الكبير خورخي بورخيس ضريرا، وقد رافقه طوال حياته من يقرأ عليه الكتب، وكان ألبرتو مانغويل أحد المحظوظين الذين رافقو بورخيس، كانا يجلسان في أوقات مختلفة ليقرأ ما يختاره بورخيس من كتب، يقول مانغويل: «قبل أن ألتقي بورخيس، كنت أقرأ بصمت، ولذا فإن القراءة على الرجل المكفوف المسن كانت تجربة غريبة بالنسبة إلي لأنه كان كمستمع، هو سيد النص وإن كان يخيل إلي بأنني كنت أتحكم بسرعة القراءة وإيقاعها. كنت بمثابة قائد سيارة، أما المكان الذي كان يمتد أمامنا فكان ملك يديه كما يفعل راكب السيارة العادي، الذي ماكان عليه إلا استلهام الطبيعة التي كان يشاهدها. بورخيس كان يختار الكتاب، وكان يمنحني الدعم اللازم، أو كان يطلب الاسترسال في القراءة، وبورخيس كان يقاطعني للإدلاء بتعليق، وبورخيس يترك الكلمات تتوجه صوبه، أما أنا فكنت غير منظور". إن لمثل هذه التجارب القرائية، أثر كبير في التفاعل بين الطرفين المستمع والقارئ، فمن خلال ردود أفعال الطرفين حول ما يدور من أحداث تتحرض الذاكرة حول نصوص سابقة، كما يأخذ تفسير المقروء أبعادا إضافية حسب كل طرف وفهمه للمقروء بطريقته، هذا أحد أبعاد القراءة التي حاول مانغويل عبر الكتاب وضعها كوثيقة في حياة أي قارئ. فعل القراءة وهنا تبرز مسؤولية القارئ عبر الزمن، ففي حين نجد أنفسنا كقراء اليوم غير مسؤولين بشكل مباشر عما نقرأه من نصوص ولايترتب عليه أي تبعات، فإن الحال كان مختلفا في البداية حين لم تكن القراءة متاحة للجميع، واقتصرت على قلة من الناس، الأمر الذي جعلها حملا ثقيلاً، فالقارئ لم يكن يقرأ لمتعة شخصية فحسب، وإنما كان أمامه التزام تجاه إبداع المعارف وتطويرها، فكان هو مصدر الحكمة ومخزنها، وهذا عبء تخلص منه القارئ نسبياً عبر مراحل لاحقة. كما يتحدث مانغويل عن تلاميذ أرسطو ومن بعدهم علماء عصور النهضة والتلاميذ في الجامعات الأندلسية والعربية، الذين كانوا يحفظون النصوص في أدمغتهم ويستدعون منها بفضل تمارين تقوية الذاكرة التي كانوا يتدربون عليها في مطالع أعمارهم ويعودون إليها وقت الحاجة أسرع مما يتمكن مانغويل اليوم من القيام به في مكتبته على جهاز الحاسوب. لقد كان العالمُ في هذه الحقب التاريخية، يجول في رحاب صروح الذاكرة للتوصل إلى نص أو اسم، بينما ندخل نحن كالمكفوفين في المتاهات الإلكترونية الموجودة داخل الحاسوب. وبمعونة هذه الأجهزة نستطيع التذكر بصورة أدق وأشمل مما كان يستطيعه أسلافنا العظماء، إلا أننا نخشى باستمرار فقدان ذاكرة مخزونة - هذا الخوف الذي كان يبدأ عند أسلافنا فقط عند تقدمهم في السن- نخشى باستمرار انقطاع التيار الكهربائي أو خطأ في إعطاء الأوامر أو حدوث خلل في النظام أو دخول فيروس إلى الحاسوب أو تعطل أحد الأقراص الإلكترونية، أمور قد تمحو كل ما خزناه في الحاسوب أوفي الذاكرة الخارجية. القراءة الممنوعة خلال مئات السنين كان العبيد الأرقاء في أمريكا والمستعمرات البريطانية يعرضون حياتهم للخطر، إذا تعلموا القراءة، ويروى أنه عندما كان يمسك بالعبد للمرة الأولى متلبسا بفعل القراءة والكتابة، كان يجلد بسوط مصنوع من جلد البقر، وفي المرة الثانية بسوط مجدول من تسعة أشرطة، وفي المرة الثالثة كان يقطع المفصل الأول من سبابته، وفي الولايات الجنوبية فإن شنق أي عبد يعلم عبداً آخر القراءة والكتابة كان أمراً شائعاً. هكذا كانت معظم الأنظمة عبر التاريخ، وعلى مر العصور والأزمان، حيث حرم الحكام الطغاة فعل القراءة، لأنهم يعرفون أن الجماهير الأمية سهلة الانقياد، إنهم يخافون الكتب أكثر من أي اختراع بشري آخر على الإطلاق، ولايسمحون إلا بنوع واحد وهو «القراءة الرسمية» المملوءة بالتفاهات والانقياد الأعمى، هي عين الرقيب ساهرة في ساحات المدارس وفي خزائن الملابس، وفي كل الأماكن تراقب جمهرة القراء بعين الارتياب، نظراً لخوف الرقيب من سلطان المعرفة والقراءة وقوتها الكامنة. لقد تصدى مانغويل في هذا الكتاب الذي استغرقه سبع سنوات في البحث والاسترشاد، لأحد أكثر القضايا صعوبة في التتبع والاستقراء، وهو بهذا الجهد والعمل الفذ بلور مرجعاً ومعيناً لكل قارئ من خلال فصول الكتاب تروي من عادات القراءة ومنافذها، فتحدث عن وحدانية القراءة والكاتب كقارئ والمترجم كقارئ والقارئ الرمزي والولع بالكتب وسرقة الكتب، فصول تؤكد دور القارئ عبر التاريخ.