انخفاض أسعار النفط بعد الارتفاع المفاجئ في المخزونات الأمريكية    سعر الذهب اليوم الخميس يصل لأعلى مستوياته وعيار 21 الآن بالمصنعية    أسعار الخضروات والأسماك والدواجن اليوم 22 مايو بسوق العبور للجملة    30 دقيقة تأخر في حركة القطارات على خط «القاهرة - الإسكندرية».. الخميس 22 مايو 2025    إسرائيل تعترض صاروخا قادما من اليمن    زعيم كوريا الشمالية غاضبا بعد فشل تشغيل سفينة حربية: إهمال لا يمكن أن يغتفر    زلزال قوي يضرب القاهرة والجيزة وبعض محافظات مصر    حكم من يحج وتارك للصلاة.. دار الإفتاء توضح    لماذا زادت الكوارث والزلازل خلال الفترة الحالية؟.. أمين الفتوى يوضح    نصيحة من محمد فضل للزمالك: لا تفرّطوا في هذا اللاعب    يصيب الإنسان ب«لدغة» وليس له لقاح.. تفاصيل اكتشاف فيروس غرب النيل في دولة أوروبية    مجلس الشيوخ الأمريكي يعتزم التحقيق في هوية الشخص الذي أدار البلاد بدلا من بايدن    نماذج امتحانات أولى ثانوي 2025 بالنظام الجديد.. رابط مباشر    رابط الحصول على أرقام جلوس الثانوية الأزهرية 2025.. موعد وجدول الامتحانات رسميًا    القيمة المضافة.. الصناعات الزراعية أنموذجا    قبل ساعات من محاكمته.. إصابة إمام عاشور بوعكة صحية ونقله للمستشفى    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 22-5-2025    إمام عاشور من داخل أحد المستشفيات: الحمد لله على كل شىء (صورة)    الفيلم الوثائقي الأردني "أسفلت" يفوز بجائزة في مهرجان كان السينمائي 2025    5 شهداء جراء استهداف الاحتلال منزلا في حي الصفطاوي شمالي غزة    بعد استهداف الوفد الدبلوماسي، كندا تستدعي السفير الإسرائيلي وتطالب بالمحاسبة    «استمرار الأول في الحفر حتى خبط خط الغاز».. النيابة تكشف مسؤولية المتهم الثاني في حادث الواحات    ضبط 7 عمال أثناء التنقيب عن الآثار بمنزل في سوهاج    هذا أنا مذكرات صلاح دياب: حكاية جورنال اسمه «المصرى اليوم» (الحلقة الثالثة)    سامر المصري: غياب الدراما التاريخية أثَّر على أفكار الأجيال الجديدة    كريم محمود عبدالعزيز: «قعدت يوم واحد مع أبويا وأحمد زكي.. ومش قادر أنسى اللحظة دي»    أرباح إيسترن كومبانى تنمو 36% خلال 9 أشهر.. بدعم 27 مليار جنيه إيرادات    أموريم: كنا أفضل من توتنهام.. وسأرحل إذا أراد مانشستر يونايتد إقالتي    المستشار عبد الرزاق شعيب يفتتح صرحا جديدا لقضايا الدولة بمدينة بورسعيد    وزارة المالية تعلن عن وظائف جديدة (تعرف عليها)    محافظ الدقهلية: 1522 مواطن استفادوا من القافلة الطبية المجانية بقرية ابو ماضي مركز بلقاس    إجراء طبي يحدث لأول مرة.. مستشفى إدكو بالبحيرة ينجح في استئصال رحم بالمنظار الجراحي    توقعات حالة الطقس اليوم الخميس    بأجر كامل.. تفاصيل إجازة امتحانات العاملين في قانون العمل الجديد    السفارة التركية بالقاهرة تحتفل بأسبوع المطبخ التركي    الهلال يتمم المقاعد.. الأندية السعودية المتأهلة إلى دوري أبطال آسيا للنخبة    مسلم ينشر صورًا جديدة من حفل زفافه على يارا تامر    بعد انخفاضه لأدنى مستوياته.. سعر الدولار مقابل الجنيه اليوم الخميس 22 مايو 2025    السعودية تدين وتستنكر تعرض وفد دبلوماسي لإطلاق نار إسرائيلي في مخيم جنين    رئيس جنوب أفريقيا: نرحب بالاستثمارات الأمريكية ونتوقع زيارة من ترامب    مراسم تتويج توتنهام بلقب الدوري الأوروبي للمرة الثالثة فى تاريخه.. فيديو وصور    كندا تطالب إسرائيل بتحقيق معمّق في واقعة إطلاق النار على دبلوماسيين بالضفة الغربية    اليوم.. انطلاق امتحانات نهاية العام لصفوف النقل بالمحافظات    الهلال ينجو من خسارة جديدة في الدوري السعودي    كيف تغلبت ياسمين صبري على التصميم الجريء لفستانها في مهرجان كان؟ (صور)    حاكم الشارقة يتسلم تكريما خاصا من اليونسكو لإنجاز المعجم التاريخى للغة العربية    28 يونيو.. ماجدة الرومي تحيي حفلا غنائيا في مهرجان موازين بالمغرب    اليوم.. العرض المسرحي "العملية 007" على مسرح قصر ثقافة بورسعيد    "من أجل المنتخبات".. ورش عمل لتطوير مسابقات الناشئين 24 و25 مايو    محافظ الغربية يُشيد بابنة المحافظة «حبيبة» ويهنئها لمشاركتها في احتفالية «أسرتي.. قوتي».. صور    كيف كان مسجد أهل الكهف وهل المساجد موجودة قبل الإسلام؟.. الشيخ خالد الجندي يجيب    بعد مطاردة بوليسية.. ضبط سيارة تهرب 8 آلاف لتر بنزين قبل بيعها في السوق السوداء بدمياط    وزير الزراعة يحسم الجدل حول انتشار وباء الدواجن في مصر    لحظة وصول بعثة بيراميدز إلى جوهانسبرج استعدادا لمواجهة صن داونز (صور)    في الجول يكشف آخر تطورات إصابة ناصر ماهر    وزير الصحة يستجيب لاستغاثة أب يعاني طفله من عيوب خلقية في القلب    رئيس إذاعة القرآن الكريم الأسبق: أيام الحج فرصة عظيمة لتجديد أرواح المسلمين.. فيديو    موعد وقفة عرفات وأول أيام عيد الأضحى المبارك 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



والد ماركيز في سيرته: إنه قصاص، حسنا، لطالما كان كذابا منذ طفولته !
نشر في نقطة ضوء يوم 23 - 06 - 2013

"سيرة حياة غابرييل غارسيا ماركيز"، هو عنوان كتاب ضخم للمؤلف جيرالد مارتن، وقد صدرت طبعته الأولى عن الدار العربية للعلوم ناشرون سنة 2010، وهذا الكتاب ليس سيرة تقليدية لكاتب معين كما قد نتصور، بل هو موسوعة أفكار اجتماعية وتاريخية وأدبية وسياسية، وخليط عجيب من شذرات منفلتة من حياة غابرييل غارسيا ماركيز الصاخبة.
ومؤلف هذا الكتاب، جيرالد مارتن هو الأستاذ الأقدم في جامعة ميتروبوليتان لندن، وأستاذ اللغات الحديثة في جامعة بيترسبرغ والمعروف بكتاباته عن السرد الأمريكي اللاتيني خصوصا في كتابه ذائع الصيت" رحلات في المتاهة: الرواية الأمريكية اللاتينية في القرن العشرين" الصادر سنة 1989. وكان رئيسا للمعهد العالي للأدب الإيبيري الأمريكي ومقره الولايات المتحدة، وهو عضو في لندن.
نقرأ في المقدمة البارعة التي أنجزها المترجم الدكتور محمد درويش لكتاب "سيرة غابرييل غارسيا ماركيز" الكثير من الفهم العميق، والإحاطة الكبيرة بعوالم غابرييل غارسيا ماركيز الساحرة، ونقف على المجهود الجميل الذي بذله المترجم لأجل كتابة مقدمة لا بد من قراءتها بإمعان للدخول في صلب وجوهر الكتاب بأكثر قدر من اليسر والاستيعاب. يقول المترجم الدكتور محمد درويش في تقديمه للكتاب:
في شهر تموز سنة 1966 نشر غابرييل غارسيا ماركيز تأملات ذاتية يسترجع فيها محنته في الكتابة بعنوان "مصائب مؤلف كاتب"، وفيها يؤكد:
"إن تأليف الكتب مهنة انتحارية، إذ ما من مهنة غيرها تتطلب قدرا كبيرا من العمل، وقدرا كبيرا من التفاني مقارنة بفوائدها الآنية. إنني لا أعتقد أن عددا كبيرا من القراء يسألون أنفسهم بعد الانتهاء من قراءة كتاب ما عن عدد الساعات المؤلمة والبلايا المنزلية التي مرت على المؤلف في أثناء تأليفه مئتي صفحة، أو ما هو المبلغ الذي حصل عليه لقاء عمله…وبعد هذا التقويم المحزن للبلايا، يبدو من الأساسي أن نسأل عن السبب الذي يدفعنا نحن إلى الكتابة. والإجابة في آخر الأمر، هي ميلودرامية بقدر ما هي مخلصة. فالمرء بكل بساطة يكون كاتبا مثلما يكون أسود البشرة أو يكون أي شيء آخر. النجاح يحفز المرء، والخطوة عند القراء مشجعة. ولكن ليست هذه الأشياء سوى مكاسب إضافية لأن الكاتب الجيد سيظل، على كل حال، يكتب باستمرار، حتى إذا كان حذاؤه بحاجة إلى إصلاح، وحتى إذا كانت كتبه لا تلقى رواجا"
(والإجابة في آخر الأمر، هي ميلودرامية بقدر ما هي مخلصة. هكذا يفرغ غابرييل غارسيا بوح الكتابة المر أمام القارئ بصراحة وبراعة مدهشة، الكاتب هنا يخلص للحقيقة أكثر بكثير مما يفعل في مواضيع أخرى. ولعل ما يدفع غابرييل غارسيا ماركيز إلى هذا البوح الكئيب، إذا صح التعبير، هو حرصه على وضع القارئ في الصورة، القارئ الذي يقتني كتابا بثمن زهيد جدا في الغالب، وتغيب عن ذهنه تلك الليالي المضنية، ولا ينتبه لذلك الوقت الطويل الذي قضاه الكاتب مرهقا خلف آلته الكاتبة، ليخرج على القراء بعد شهور طويلة بكتاب جاهز، ومطبوع بطباعة، في الغالب، أنيقة وفاخرة تليق بأبهة القارئ وتفتح شهيته للقراءة.
في هذه البداية من كتاب "سيرة حياة غابرييل غارسيا ماركيز" لمؤلفه جيرالد مارتن، يخرج صاحب رائعة "مئة عام من العزلة" ليخبرنا بآلام الكتابة وشقائها. وهو إذ يفعل، يعود إلى الكاتب الإنسان، ليتخلى مؤقتا عن الكاتب المبدع الذي يترك العنان لخياله، ليطوف بنا في عوالم مدهشة وبارعة كما عودنا سواء في حواراته أو مقالاته أو إبداعاته التي تتسم بغرائبية سحر الواقعية التي، وحتى وان لم يكن من مؤسسيها الأولين، إلا أنه يعتبر من أفضل من طور هذا النمط الفريد والأنيق في كتابة الرواية.
وفي نفس مقدمة الكتاب الذي نحن بصدده، يورد غابرييل غارسيا ماركيز كلاما يبدو وكأنه يعود به إلى طبعه الذي تتسم به كتاباته في العادة، بحيث يقول معرفا بنفسه " اسمي، أيها السادة، هو غابرييل غارسيا ماركيز. آسف. فأنا شخصيا لا يروقني هذا الاسم لأنه سلسلة من كلمات عادية لم أستطع قط أن أربطها بنفسي. ولدت في بلدة آراكاتاكا في كولومبيا…ولا أزال غير آسف على ذلك. برجي هو الحوت، وزوجتي هي ميرثيديس: هذان هما أهم حدثين في حياتي لأنني بفضلهما تمكنت حتى الآن، على الأقل، من البقاء على قيد الحياة بالكتابة. إنني كاتب هياب، مهنتي الحقيقية هي مهنة ساحر، لكنني أرتبك ارتباكا شديدا وأنا أحاول القيام ببعض الحيل التي أضطر إلى أن ألوذ بها من جراء عزلة الأدب. على كل حال، إن كلا النشاطين يقودان إلى الشيء الوحيد الذي أثار اهتمامي منذ أن كنت طفلا: أن يحبني أصدقائي أكثر…إن كوني كاتبا من الكتاب ليس سوى إنجاز استثنائي لأنني رديء جدا في الكتابة، وعلي أن أخضع نفسي لانضباط بشع كي أنجز كتابة صفحة واحدة بعد ثماني ساعات من العمل. إنني أناضل نضالا جسديا مع كل كلمة، لكن الكلمة هي التي تفوز على الغالب. لكنني عنيد جدا، حتى إنني تمكنت من نشر أربعة كتب خلال عشرين سنة. أما الكتاب الخامس الذي أكتبه الآن، فكتابته أبطأ من كتابة بقية الكتب لأنني لا أملك إلا النزر اليسير من الوقت بين كثرة الدائنين وحالات الصداع".
أجزم أن من يقرأ هذه الفقرة الطويلة، سيدرك تماما، وبدون أدنى تردد، أن المتحدث هنا هو أحد أبطال روايات غابرييل غارسيا ماركيز وليس غابرييل نفسه. إنها فقرة نثرية ثرية بخيال ماركيز وموهبته الفذة في الحكي، وأيضا بنفس المبالغة الجميلة التي تضفي على نصوص غابرييل غارسيا ماركيز سحرا خلابا وجاذبية لا تقاوم.
يطرح جورج لوكاش " فيلسوف وكاتب وناقد أدبي مجري" في نظرياته حول فن الرواية قضية البطل الإشكالي، ويظهر من خلال هذا المفهوم أن البطل الروائي كفرد إنما هو شخصية نموذجية تشير إلى وعي كلي بالوجود، وهو وجود يحدد الوعي عند المجموعات البشرية التي تخضع لبيئة اجتماعية واقتصادية متجانسة، ويعبر عن رؤية للعالم ، ترتبط بشكل العلاقة التي تبرز وضع البطل الروائي الاجتماعي، وبالتالي التاريخي…
البعض يذهب إلى القول بأن غابرييل غارسيا ماركيز قد نحا هذا المنحى، أو الطرح الذي وضعه لوكاش، كما في مؤلفاته الروائية والقصصية التي خلد فيها شخصيات ربما أغلبها شخصيات حقيقية، شخصيات مستمدة من قرى وبلدات كولومبيا. مثل هذا القول لا يخلو من الكثير من الصحة، إلا أن شخصية غابرييل غارسيا ماركيز، في تحولاتها اللولبية، تبدو جلية في أعماله، فهو الذي يلبسها من عوالمه الخاصة، ومن خياله الذي يلتقطه من جزئيات بسيطة لا يمكن أن ترقى لتكون شخصيات وأحداث واقعية. ومن هنا تبدو براعة الكاتب الحقيقي الذي لا يحتاج إلى كل شيء ليعطينا أدبا مرموقا، بقدر ما يحتاج فقط لخيال خلاق ومبدع، والى تجارب حياتية متنوعة تلهمه حكيا بارعا لا يضاهى، ونحن نعلم تجارب غابرييل غارسيا ماركيز في الحياة، وسفرياته المتعددة إلى العديد من دول العالم، ثم وقوعه في فترات من حياته في عوز رهيب، وفاقة وحرمان دفعاه مرة إلى أن يفتش في القمامة عن بقايا طعام يسد به رمقه، وفي مرة أخرى وجد نفسه في حال أليم جدا وهو يطلب العذر من طفله الرضيع ليلا لأنه لا يمتلك المال ليشتري له الحليب ليتناوله قبل أن ينام جائعا، واضطر كذلك، وفي مفارقة غير مقبولة "للضمير الأدبي"، إلى أن يرسل نصف مخطوطة رواية عبر البريد إلى الناشر الأرجنتيني لأنه لم يكن حينذاك يمتلك ما يكفي من المال ليرسل الرواية دفعة واحدة. وكم سيصيبنا من الأسى العميق حين نعلم أن هذه الرواية لم تكن إلا رواية " مئة عام من العزلة "، الرواية الباهرة التي سحرت العالم كله..وكم كنا سنحزن حزنا بالغا بالفعل لو تصورنا أن غابرييل غارسيا ماركيز، وبسبب الفقر فقط لا غير، كان قد غير هوس الكتابة بمهنة أخرى، وبالتالي سيكون قد حرم الإنسانية من تحفة روائية تعد إحدى أهم الروايات التي كتبت في العالم وفي كل الأزمنة على الإطلاق. لكن زوجة غابرييل غارسيا ماركيز كانت وفية أدبيا لزوجها، إلى الدرجة التي جعلتها ترهن السخانة الكهربائية ومجفف الشعر والمفرمة الكهربائية ، لتسديد المستحقات البريدية لإرسال النصف الثاني من رواية " مئة عام من العزلة " إلى الناشر في الأرجنتين. ولم يتبق في منزل ماركيز أي شيء بعد أن بيعت أو رهنت كل ممتلكاتهما القليلة، هو وزوجته ميرثيديس.
ونقرأ دائما في مقدمة الكتاب ذاته الذي نحن بصدده: "وإصراره (أي غابرييل غارسيا ماركيز) على الكتابة لا يضاهيه إصرار آخر. فمن جهة أولى، قال له والده ذات يوم: "سينتهي بك المطاف إلى أن تأكل الورق"، وذلك عندما قرر في العام 1949 أن يتخلى عن دراسة الحقوق بسبب رسوبه في السنة الثالثة من دراسته. وعندما حاول أحد أصدقائه أن يدافع عنه أمام أبيه، موضحا له أن ماركيز بات اليوم واحدا من أفضل كتاب القصة القصيرة في كولومبيا، انفجر الأب صائحا: "انه قصاص، حسنا، طالما كان كذابا منذ طفولته!"، ومن جهة أخرى، نجده يتلقى في العام 1952 رسالة مدمرة من دار نشر لوسادا في بيونس آيريس، التي أرسل إليها مخطوطة روايته الأولى "عاصفة الأوراق" بغية نشرها، فيها يخبره مدير الدار "غيرمو دي توري"، وهو أحد أبرز نقاد الأدب الإسباني في المنفى وأحد أقرباء الأديب الأرجنتيني المعروف خورخي لويس بورخيس، انه ليس لديه أي مستقبل في كتابة الرواية، واقترح عليه أن يبحث عن مهنة أخرى. لكن أصدقاء غارسيا ماركيز تجمهروا حوله وقال له أحدهم: "يعلم الجميع أن الاسبان أغبياء!"
عدم التقدير الذي تعرضت له مواهب غابرييل غارسيا ماركيز، من جهات متعددة، كان بإمكانه أن يعرض الكاتب إلى إحباط شديد، ويجعله يَعرض نهائيا عن المضي في طريق الأدب والإبداع، وفي مجال السرد بالذات، ولكن عزيمته وإيمانه بنفسه، إلى جانب الدعم المعنوي الذي تلقاه من أصدقائه، شكل له كل ذلك دفعة قوية جعلته يتحدى كل الأحكام المسبقة العقيمة، ولم يضع مصير موهبته تحت حكم أي كان، بما في ذلك المدعو "غيرمو دي توري" الذي كان يعتبر آنذاك أبرز نقاد الأدب الإسباني في المنفى.
ولكن ملاحظة والد غابرييل غارسيا ماركيز كانت شبيهة إلى حد بعيد بالأدب الذي ينتجه الابن غابرييل غارسيا ماركيز حينما قال في تعليق مثير حول ابنه: "انه قصاص، حسنا، طالما كان كذابا منذ طفولته!" هذه المقولة تحمل دلالات عميقة، فغابرييل غارسيا ماركيز كان يمارس حديثه اليومي على نحو فيه الكثير من الابتكار وعدم الانسياق وراء الكلام النمطي التقليدي السائد، وخطابه الاستثنائي هذا هو ما جعل والده يقول عنه بطريقة، ينبغي أن نعترف بأنها تحتوي على الكثير من الإبداع،: "انه قصاص، حسنا، طالما كان كذابا منذ طفولته!" وهو الأمر ذاته أيضا الذي جعله يخاطبه في موقف آخر، وبنفس طريقة الكلام الساخر المبدع: "سينتهي بك المطاف إلى أن تأكل الورق"، ولكنني أجد نفسي في الأخير مرغما لأتساءل بكل عفوية: هل حقا يكون والد غابرييل غارسيا ماركيز هو من تفوه بتلك العبارات البارعة، أم أن تلك العبارات هي وليدة خيال خصب لصاحب رواية "مئة عام من العزلة"؟! على كل حال إن من يروي كل هذا هو غابرييل غارسيا ماركيز، وهو يروي دائما وأبدا بالطريقة الأكثر إبداعا وسحرا، تماما كما نقرأ في رواياته المدهشة التي تعد كل واحدة منها تحفة أدبية أغنت النتاج الروائي السردي العالمي بإضافات جد نوعية. وأعتقد أننا، ربما، يجب أن ننتظر طويلا وطويلا جدا لنرى لها مثيلا.
ونبقى دائما في مقدمة المترجم الدكتور محمد درويش لكتاب "سيرة غابرييل غارسيا ماركيز"، لنقرأ: "لقد أشار (غابرييل غارسيا ماركيز) في مقابلة صحافية الى أنه لو لم يكن كاتبا، لرغب في أن يكون عازفا على البيانو لأنه يريد العزف في المشارب فيسهم بدوره في جعل العشاق يشعرون بحب أكبر تجاه أحبائهم ويؤكد أنه لو أمكنه أن يجعل الآخرين يحب أحدهم الآخر من خلال كتبه، فذلك هو المعنى الذي يريده لحياته".
طبعا حين تسأل أي كاتب عن الحرفة التي كان سيختارها لو لم يكن كاتبا كما هو في الواقع، فإننا نحصل في الغالب على الإجابة ذاتها، وهي إجابة لا تخرج عن النمط الشاعري لتصور شاعري لمهنة غير واقعية في فلسفتها والمضمون الذي يركبه داخلها الكاتب. ولهذا أيضا نجد غابرييل غارسيا ماركيز يقول بأنه لو لم يكن كاتبا، لرغب في أن يكون عازفا على البيانو، ولا شيء يدفعه نحو تلك الرغبة غير رغبته في أن يجعل العشاق يشعرون بحب أكبر تجاه أحبائهم. ولكن أليست الكتابة هي أيضا فن لجعل الفرد يحيا بسعادة أكثر، ألا تفرز الكتابة نفس النتيجة والغاية التي يمكن أن يفرزها فن العزف على البيانو مثلا؟ أي جعل العشاق يشعرون بحب أكبر تجاه أحبائهم. ولهذا نجد غابرييل غارسيا يؤكد أمنيته (في نفس المقابلة الصحافية) "أن يجعل الآخرين يحب أحدهم الآخر من خلال كتبه"، وهو أمر يحصل فعلا..لأن القراءة، وقراءة نصوص بمستوى عال جدا كروايات غابرييل غارسيا ماركيز، لا يمكنها إلا أن تهذب الشعور الجماعي للأفراد، وتقوي الحس الجمالي للمجتمع، بكل صيغ الحس الجمالي المتنوعة، وفي كل هذا سيكون هناك حب وعشق للحياة وللناس فيما بينهم.
في اعتقادي هذا ما يريد تأكيده الروائي العظيم غابرييل غارسيا ماركيز في كلامه حول رغبته في العزف على البيانو في المشارب ليجعل العشاق يشعرون بحب أكبر تجاه أحبائهم، ويتمنى لو أمكنه أن يجعل الآخرين يحب أحدهم الآخر من خلال كتبه…تلك كانت رغبة الكاتب، وبالتأكيد فان تلك الرغبة قد تحققت، بين البعض على الأقل، من ملايين قرائه فوق هذه الكرة الأرضية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.