تأخرت عملية تكوين الرواية في الجزيرة والخليج إلى النصف الثانى من القرن العشرين، وتعتبر المملكة العربية السعودية مثالاً لتطور وانتشار هذا النوع السردي المميز، ومعظم الكتاب الذين أخذوا راية التطور الروائي في تلك المنطقة بدأوا حياتهم الأدبية باقتفاء أسلوب الأعمال الناضجة. وفي هذا المضمار يحاول كتاب "تجارب روائية من الخليج والجزيرة العربية " لمؤلفه عبدالله خليفة تسليط الضوء على نماذج روائية عديدة من السعودية والبحرين والكويت وتحليلها، لمعرفة مدى تطور البنية الروائية في تلك المنطقة. ويقدم المؤلف أول نموذج في هذا الكتاب، وهو رواية "النواخذة" لفوزية شويش السالم، الذي يعبر عن قصص ما قبل الرواية، وهو غلط يتشكل في البلدان التي بعدُ لم يتجذر فيها بناء الرواية الحديثة، فيقوم الروائي بالدخول في البناء الفني، وبالتالى لا يفضى بها نحو دلالات عميقة. وفي رواية "النواخذة" نجد بعد ثلث الكتاب المسرود بضمير الغائب، تنعطف فجأة بالقص إلى غابات أفريقيا، ونرى مشاهد صيد العبيد، ومن خلال ضمير المتكلم هذه المرة، حيث تقوم المرأة "منجي الزنجية"، برواية القصة بدلاً من ضمير الغائب. متحدثة عن كيفية صيد عائلتها ويعبر ذلك عن محور جديد، شخصي وسردي لم يتم نموه من المحور السابق، أو أن يكون إضافة له، بل هو يجاوره دون أن يمتلك هو أيضاً شخصيته ونمو الحقيقي المتجذرة في الحياة، والمؤلفة تمتلك ناصية لغة جميلة، وهي شاعرة أساساً، ولها دواوين، ولكنها أرادت أن تخوض ميدان الرواية، وعموماً تظل محاولات الكتابة هذه مفيدة في التسجيل وتنشيط الذاكرة. أما رواية "العصفورية" لغازي القصيبى فتجري أحداثها، في مستشفي الأعصاب اللبناني بين طبيب يفترض بأنه نفسي هو "سمير ثابت"، ومريض هو "الراوي المهيمن"، والأحداث تدور بين الاثنين، حيث يقوم المريض بالحديث المطول المستمر، المتنوع الساخر الفنتازي الناقد، دون أن تلعب الشخصية الثانية المفترضة أي دور، إلا وضع نقاط وإثاره بعض الأسئلة. فترى شخصية الطبيب المعالج سلبية تماماً ومحدودة الثقافة، أما المريض فهو العبقري الكبير الذي يستطيع أن يعرف كل شيء ويقوم بشتى المغامرات، كالحوار التالي الذي يبدأه المريض المزعوم، "أما الآن فإذا قلت لي اسم الشخص الذي ألف (تلخيص الإبريز) فسوف أدفع لك 10000 دولار عداً ونقداً. عليه العوض حسناً اسمه "رفاعة رافع الطهطاوى"، يقوم البروفيسور، وهو الشخصية المريضة المفترضة هنا، وهو الذي يلعب دور الراوي المؤلف بتغريم شخصية الطبيب المحاور، وهي الشخصية الثانية في هذا العرض الفنتازي فهو لا يعرف رفاعة الطهطاوي، وبالتالى مسارات التطور العربى الحديث الأول، في حين يمتلك البروفيسور كل المعلومات عن الشخوص والأحداث والكون، ولكنه ينثرها تغريماً كذلك للشخصيات العربية النهوضية، كرفاعة هنا الذى يغدو مصاباً بعقدة الخواجة. إن الراوي السارد: المؤلف المتمتع بالسلطة الديكتاتورية في النص استطاع أن يوجه العرض في أي جانب يشاء، بأن يتحدث عن الجن وأن يقيم صلات قصصية. ومنها أن يواصل التعريف بالمتبنى على طول النص، أو أن يمدح المذهب الوهابي أو ينتقد الحزب الجمهوري الأميركي ويؤيد الليبرالية، وأن يسخر سخرية ضخمة جداً بمجمعات اللغة العربية، أو أن يسخر من عادات الأكل في الجزيرة العربية وهيمنة الواسطة وسيطرة البيروقراطية والنساء الإداري .. ألخ. أما رواية "ليلة الحب" لمحمد عبدالملك فتقوم على فكرة تشكل علاقة حب موهوبة بين شخصيتين، تمثلان عالمين مختلفين متضاربين، وهذه العلاقة تنمو من الكلمات الأولى في النص القصصي وتعتمد فصول الرواية على مجموعة من الرواة، هم المشاركون في خلق الحبكة على طريق نجيب محفوظ كما في روايته "ميرامار". وفي كتابه القصصي "حارس الأوهام الرمادية"، يشكل جمال الخياط شخصية غربية استثنائية هي "راشد الفأر"، وراشد هو الراوي السارد في هذا العمل، وهو يشبه بطل دستويفسكى في نصفه الإنسان الصرصار، حيث التعبير الذاتي الدوني عن التجربة، والثرثرة المستمرة، ولكن ثرثرة راشد الفأر منضبطة، عمل القاص جمال الخياط على عدم تدفقها الذاتي الفوضوي الحر.
ويشير المؤلف إلى رواية "البرزخ" لفريد رمضان قائلاً: تبدأ رواية البرزخ بالراوية الأولى والأساسية "سارة"، وهي ممدة في المقبرة وتتميز بتشكيل سرد توصيف متنام لوضعها وللمكان مسترجعة علاقتها بأختها مريم. إن هذا المفطر الغرائبي يغدو موضوعياً بفضل البنية المشهدية التي تتشكل به: وتراب ناعم ورطب أوراق شجر الموز الصفراء التي تسوقها ريح خفيفية، قرب جسدي الممدد ويتسع المشهد ليضم المقبرة، ثم القرية التي ستحتضن الأحداث. يقوم السرد الواقعي بتنمية المشهد وتصعيده في اللقطة الجزئية، حيث تتداعى سارة الصبية الصغيرة، وهى حية في قبرها، متنقلة من الأشياء الموجودة إلى الكائنات الغيبية، التي تظهر على شكل حيوانات. هذا المشهد الغرائبي يعبر عن تداخل الحياة والموت، الطبيعي والخارق، فالموت يتجسد على شكل روح حيوانية؛ لكنها لا تأتي لخطف روح سارة بل لعودتها إلى الحياة لأن ساعتها لم تأت بعد. كانت تتنفض بالحياة، فجسدها الصغير كان يتبرعم وحين تقوم بغسله تتحسسه مزيلة تراب المقبرة الأصغر، لكن الأخضر في جسدها لا يبدو أو لا يتشكل، كما أن حكاية شريفة التي هي قصة قصيرة جديدة، أضيفت إلى المحور الروائي، ولكن قصة شريفة كانت مجاورة بقوة لهذا المحور، فهى مشاركة للعائلة في المهنة، كما أنها تقضي مع الأم معظم أوقاتها وهما تنتظران خبر وفاة أيه امرأة في المحرق، وهذه المشاركة الحميمة لقصة شريفة أنتجت من وجود ابنين لها لا يزالان يعملان أو يصاحبان العائلة المحورية. في رواية "الجسد الراحل" لأسماء الزرعونى، يرى المؤلف أن هذا العمل ينتمى إلى نسيج ما قبل الرواية، حيث لا تقوم الشخوص والمكان والزمان والأحداث على أسس موضوعية، فالشخصيات كائنات تطفو فوق الظروف وتنمو بالدفع الذاتي للكاتبة. فالشاب "عيسى" بعد شجار طفيف مع والده بسبب زوجة الأب، يقرر الرحيل إلى خارج بلده، فيتمكن من السفر إلى بلد آخر، ثم العيش والعمل بذلك البلد وإقامة علاقة وحيدة مع عائلة، ثم السفر أيضاً إلى بلد ثالث أوروبي هذه المرة، وينجح هنا أيضاً في العمل والعيش، فنجد أن الدينمو المحرك للرد هو العلاقة العاطفية الرومانسية التي بدأت وهو في بلده بحب "بدرية"، وتضفر الكاتبة بين بعض الصور الواقعية والقص لكن العلاقة النسائية تختزل الوجود المنوع للشخصية المحورية "مسح دمعة بكم دشداشته وتنبه على صورته وهو يصرخ كالمجنون، سأعود إليك يا بدرية لأمسح شعرك الحرير وأشم رائحة البخور منك، آه لو تعرفين كم أشتاق إليك وإلى حديثك الأحلى من العسل". إن استخدام الإنشاء والتقرير وعدم ترك الشخوص والأحداث تنمو ببساطة في ظل واقعها، تقود دائماً إلى أسلوب المغامرات، حيث يقوم البطل الرئيسي بالتطواف لكن المغامرات، هنا علاقات عاطفية هي الأخرى ظاهرية، تعتمد على رؤية جسدية سريعة لتشتعل العواطف من جانب واحد، غالباً هو جانب الفتيات اللاتى يشاهدن عيسى، لكن روحه معلقة في تربته الأولى ببدرية التي ربط قلبه ببسائل شعرائنا، فلا تستطيع الأسفار والأعمال التي لا يشعر بأى تأثير على جسده وروحه أن تقطع تلك العلاقة. إن الأسلوب جميل وخاصة في رصد الواقع الإماراتي المحلي، عبر صور البيوت والأزقة والمعهد الشعبي، لكن هذا الواقع يظل كديكور يسيطر على الشخصية المحورية وعواطفها. وينتقل المؤلف إلى رواية "العواض" لشاهد العصيمي، في هذا الرواية نقرأ عمليات تحليل الحياة الحديثة داخل أعماق الجزيرة العربية، من خلال حياة البدو وتحولاتهم الاجتماعية، وبشكل سردي جميل، إن طبيعة السرد الجدلية التي تضفر بين الكلي الحدثي الخارجي للشخوص والعمليات النفسية الغائرة، بين تصوير النماذج وهي في بيئتها الاجتماعية الملموسة وبين وصف البيئة بشكل شعرى واقعي، إن هذه الميزات تجعل من هذا العمل انعطافة حديثة قصصية في التغلغل في عالم القبائل والبدو وهو يتشكل حديثاً. والرواية تحقق منجزات تحليلة على صعيد الفن الروائي، فهى تتغلغل في تحليل الواقع الحديث في المنطقة داخل المناطق البدوية البكر، لكنها تتجمد عند الجزئي في البني الاجتماعية، حيث التقاتل القبلى يبدو كجوهر للصراع الاجتماعي، ومع ذلك يبدو أيضاً بأن قسوة الارستقراطية القبلية المشاركة في عمليات الفساد الاقتصادية هي السبب وراء تدهور حياة الناس، وخاصة للشباب منهم الذي يعبر عنهم "خاوي" الشاب الخريج الذي يبحث عن عمل دون فائدة، ثم يتم خطف حبيبته "ميثاء" منه عن طريق "تباك الغولى"، فيكون هذا الفعل ضربة مزدوجة للشباب من قبل شيخ القبيلة المتحالف مع الفساد الاقتصادي. يذكر أن كتاب "تجارب روائية من الخليج والجزيرة العربية" للكاتب عبدالله خليفة صدر ضمن مطبوعات وكالة الصحافة العربية بالقاهرة، ويقع في نحو124 صفحة من القطع الكبير.