لا تزال باريس العربية، تجذب أقلام البحاثة والكتّاب، وما برحت معالمها العربية، التراثية والحضارية أو الثقافية، تشكل مرجعًا لقراءة العلاقة العميقة، التي كانت قائمة بين العرب والعاصمة الفرنسية. وليس من المبالغة القول، إن تاريخ الجالية العربية في باريس هو جزء من تاريخ باريس نفسها. فهذا الجزء العربي من ذاكرة العاصمة الفرنسية، صنعه المهاجرون العرب على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم وهوياتهم وثقافاتهم. وليس من المستغرب أن يكتب أحد الصحافيين الفرنسيين قائلاً: (إن باريس، ما كان لها هذا الدور من دون العرب). ولعلّ العلاقة التي قامت بين فرنسا والعرب، بدءًا من حملة نابليون بونابرت على مصر في العام (1798)، لم تخلُ من الالتباس التاريخي والتناقض والغنى والحاجة إلى الآخر في معنى التبادل الثقافي والحضاري. ومثلما حملت مغامرة نابليون إلى مصر الكثير من أدوات المعرفة والعلم، حمل جنود نابليون بدورهم الكثير من معالم الحضارة المصرية إلى فرنسا. هذه العلاقة المتوترة أخذت لاحقًا بُعدًا آخر وطابعًا شبه تراجيدي عبر الحركة الفرنسية الاستعمارية، التي دفعت فرنسا إلى احتلال الجزائر في العام (1830)، وإلى جعل تونس محمية فرنسية في العام (1881)، وكذلك المغرب في العام (1912)، ناهيك عن بعض بلدان المشرق العربي التي خضعت للانتداب الفرنسي وفي مقدمتها لبنان. غير أن هذه العلاقة بين فرنسا والعرب، لم تنته مع انتهاء الزمن الاستعماري أو الكولونيالي الفرنسي، فهي سرعان ما اتخذت مظهرًا آخر، ثقافيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، فالعاصمة الفرنسية التي طالما كانت مدينة مفتوحة أمام الهجرات المختلفة، والتي كانت أيضًا مرجعًا سياسًّا وثقافيًّا، وخصوصًا عقب الثورة الفرنسية، شرّعت أبوابها أمام العرب، أمام اللاجئين العرب والمنفيين، وأمام العمال والطلاب والمثقفين والسياسيين. وتمكّن العرب خلال القرنين (التاسع عشر والعشرين) من أن يرسّخوا حضورهم كمجموعة بشرية، إثنية ودينية وعلمانية، تحفل بالكثير من المتناقضات الناجمة عن ظاهرة التعدد والاختلاف. وإن كان العرب شاركوا في (كومونة) باريس في العام (1870)، ودافعوا عنها كما يقول الكاتب الفرنسي برتران دولانوه، فإن البعثات العربية بدأت تتوالى منذ بداية القرن التاسع عشر، وراح العرب يؤمون باريس بغية التعرُّف إلى معالمها الحضارية. ولعل البعثة المصرية التي أرسلها محمد علي إلى العاصمة الفرنسية في العام (1826) برئاسة رفاعة الطهطاوي، كانت البعثة العربية الأولى التي تطأ أرض باريس. ولكن كانت سبقت هذه البعثة رحلات عربية عدة، انطلقت من لبنان وسواه، ولا سيما في القرن السابع عشر. ويذكر بعض المؤرخين شخصين لبنانيين هما (الإهدني) و(الحصروني) هاجرا إلى باريس في ذلك القرن، وأدخلا الحرف العربي إلى المطابع الفرنسية. لطالما عرف الفرنسيون ما يسمّى ب(الشغف) العربي أو الشرقي، وقد أجّج هذا الشوق في مطلع القرن الثامن عشر كتاب (ألف ليلة وليلة) في ترجمته الفرنسية الأولى، التي أنجزها المستشرق الفرنسي أنطوان غالان في العام (1704). ولم تلبث هذه (الليالي العربية) كما تسمّى، أن أيقظت في المخيّلة الفرنسية سحر الشرق وفتنته الفريدة، وهما سيظهران لاحقاً في النتاج الأدبي والفني، الذي تأثر علانية بالتراث العربي. ولعلّ ما زاد من الشغف الفرنسي أيضاً ما أسفرت عنه حملة نابليون بونابرت إلى مصر، ولا سيما الآثار التي نقلها جنود الإمبراطور إلى فرنسا. ومنذ ذلك الحين، بدأت تظهر في باريس بعض المعالم الهندسية المصرية أو الفرعونية الطراز. وعلى رغم الأزمات التي اعترت العلاقة بين فرنسا والعرب خلال القرنين الماضيين، ظلّت باريس على افتتانها بالشرق العربي، وظل العرب بدورهم في حال من الإعجاب والانبهار، إزاء البلاد الفرنسية عمومًا وباريس خصوصًا.. وهم ما فتئوا يؤمونها منذ مطلع القرن التاسع عشر، باحثين فيها عن الحرية والملاذ السياسي، وعن العلم والمعرفة، وعن العمل والحياة الكريمة. ولعله الشغف المتبادل بين عالمين مختلفين يلتقيان عبر هذا الاختلاف الطبيعي. هذا الحضور العربي في باريس، الذي صنعه العرب كما صنعه الفرنسيون أنفسهم، والذي راح يترسخ منذ مطلع القرن التاسع عشر، تناولته كتب عدة، ومنها كتاب (باريس العربية) (دار لاديكوفرت الفرنسية). هذا الكتاب البديع يجب أن يترجم فعلاً إلى العربية نظراً إلى أهميته وشمولية قراءته لما يسمى (باريس العربية)، وقد شارك في تأليفه خمسة كتّاب فرنسيين وبعضهم من أصول عربية وهم: باسكال بلانشار (مؤرخ وباحث في المركز الوطني للبحث العلمي)، إريك ديروو (كاتب ومخرج سينمائي)، إدريس اليازامي (مفوّض عام لجمعية جنيريك)، بيار فورنييه (رئيس محافظة الآثار)، جيل مانسرون (صحافي ومؤرخ). والكتاب تحفة بالنص والصورة معاً، وبما يرافقهما من وثائق وملصقات وبطاقات ولوحات فنية وآثار ومعالم هندسية. كان على هؤلاء الكتاب الخمسة أن يقتفوا آثار باريس العربية، وأن يجمعوا الوثائق والملفات والسير الفردية والجماعية، التي أحاطت بالعرب الباريسيين خلال قرنين. فالوجود العربي لم يجذب من قبل المؤرخين والباحثين الفرنسيين والعرب، ما عدا قلة قليلة من الكتّاب والصحافيين، الذين ألقوا أضواء ضئيلة وغير كافية على هذا الحضور التاريخي. ولا غرابة، أن يجد هؤلاء الخمسة أنفسهم محاطين، بما يقارب عشرة آلاف وثيقة، تؤلّف ما يشبه (الألبوم العائلي) كما ورد في المقدمة، وكان عليهم ان يختاروا خمسمئة وثيقة من هذا الكمّ الهائل، وهي في معظمها غير منشورة. وقد سمّى هؤلاء الباحثون عملهم التوثيقي والتأليفي والأدبي ب(السفر في المتخيلّ)، في السوسيولوجيا والتاريخ، وفي اللاوعي الفرنسي والعربي معًا. وقد وفّرت وثائق الكتاب وصوره مادة حقيقية لقراءة تاريخ باريس العربي قراءة موضوعية، ولكن من غير خلوٍّ من النظرة الفنية والشعرية والجمالية. ففي هذا الكتاب الفريد يكمن (تاريخ مزدوج، تاريخ النظرة وتاريخ التحليل اللذان يتناولان قرنين مضطربين). وقد يكون صدور الكتاب خير دليل على عمق الارتباط بين الثقافة الفرنسية والوطن العربي. فالكتاب يرسم صورة واضحة للعاصمة الفرنسية، إبان انفتاحها أمام الثقافة العربية المهاجرة أو الزائرة، والتي تأثرت كثيراً بمعطيات النهضة التي صنعها الفرنسيون. إنها باريس المنعطف العربي أو المفترق، السياسي والاجتماعي والفكري، باريس الكتّاب العرب والفنانين والمفكرين والسياسيين. وهذه الصورة العربية لباريس تقدّم للمرة الأولى، في مثل هذا الإتقان والعمق والموضوعية. إنهم عرب باريس، بل إنهم العرب في باريس، بتناقضاتهم وصراعاتهم، بأجيالهم المتعددة، بثقافاتهم ، بعاداتهم التي حملوها معهم وتقاليدهم، بأحوالهم المختلفة، بطبقاتهم وأفكارهم.. يرصد الكتاب أربع مراحل أساسية في تاريخ الوجود الثابت للعرب في باريس: المرحلة الأولى تتمثل في العام (1900)، وهو العام الذي وضعت الدولة الفرنسية خلاله الخطوط الرئيسة لاستقبال المهاجرين الأجانب. المرحلة الثانية كانت في العام (1925)، وشهدت بروز نوع من (آلية) الرفض حيال اتساع حركة الهجرة المغاربية إلى باريس. المرحلة الثالثة في العام (1931)، وترافقت مع (حروب التحرير) في بلدان المغرب العربي (وكذلك المشرق)، وأصبح العرب حينذاك عرضة للاضطهاد والاعتداء العنصريين، لكن بعض الشخصيات الفرنسية والأحزاب والتجمّعات المؤيدة للاستقلال المغاربي، دافعت عن العرب، وناهضت التمييز العنصري الذي ساد زمنًا، وبرزت أسماء عدّة دعت إلى نصرة ما سمّي آنذاك ب(السياسة الإسلامية)، ومنها ألفرد لوشاتولييه الذي كان يشرف على مجلّة (العالم الإسلامي)، وشارل جونار وأدولف ميسيمي وشارل جيد. وفي غمرة هذه الظروف دعا جان جوريس إلى منح الجنسية الفرنسية إلى الجزائريين في فرنسا، معارضًا بشدة احتلال المغرب العربي. أما المرحلة الرابعة (1975)؛ فكانت مرحلة التوازن الذي حققته الأجيال الجديدة. وجاءت هذه المرحلة وكأنها رد على مرحلتي العشرينيات والثلاثينيات، اللتين حدث خلالهما نوع من التحوّل (البشري)، إذ بلغ عدد المهاجرين المغاربيين نصف مليون، وقد عرف هؤلاء باريس وعاشوا فيها أو عبروها. وعلى رغم الأجواء المتلبّدة، استطاعت فئة من العرب أن تخترق جدار العنصرية والوطنية، محققة ما يشبه الانتصار الرياضي والثقافي والأدبي. وهذه الفئة هي التي ساهمت في ترسيخ التوازن الذي تجلى في مرحلة ما بعد العام (1975). حينذاك برز اسم الملاكم مارسيل تيل، واسمه الحقيقي هو مصطفى خليلو بن عبدالقادر، وقد خلّده الكاتب جان كوكتو في نص عنوانه (رحلة حول العالم في ثمانين يوماً). وبرز أيضاً اسم لاعب كرة القدم العربي ابن مبارك، الذي لعب في الفريق الوطني الفرنسي بين العامين (1938) و(1954). وهناك أيضاً اللاعب ابن بوعلي، علاوة على الأسماء العربية الكبيرة التي غزت الثقافة الفرنسية والأدب الفرنسي، مثل كاتب ياسين ومحمد ديب ومولود فرعون وإدريس شرايبي وسواهم.. وهؤلاء اعتمدوا اللغة الفرنسية، وبرعوا في التعبير بها أيّما براعة، وحملوا إليها خصالاً جديدة من ذاكرتهم الأولى ومن وجدانهم الشرقي والعربي. وبدءًا من العام (1975) راح يبرز جيل جديد من الكتّاب والفنانين والرياضيين والأكاديميين، وقد تأقلم هذا الجيل مع الجو الباريسي والفرنسي، خصوصًا بعد ابتعاده عن أرضه الأولى. وبعض هذا الجيل لم يقطع علاقته نهائيًّا بوطنه الأم. ويمكن هنا تسمية: الطاهر بن جلّون، جمال الدبوز، وكذلك الشاب خالد والشاب مامي وطارق رمضان وعزوز بجاج، ولاعب الكرة النجم زين الدين زيدان، إضافة إلى أسماء كثيرة يصعب تعدادها. ومع بروز (التجمُّع العائلي) العربي ودخول الأجيال الجديدة المشهد السياسي، راحت المعادلة تنقلب شيئًا فشيئًا، وبات عرب باريس يملكون ثقلاً سياسيًّا ولا سيما في الانتخابات، علاوة على الثقل الاجتماعي والثقافي عبر الجمعيات والنوادي التي أسسوها. وجذبت الجالية العربية والإسلامية أنظار المرشحين في الانتخابات، وحاول الكثيرون من هؤلاء استمالة هذه الجالية لمصلحتهم الانتخابية. غير أن كتاب (باريس العربية) هو (كتاب صور) أيضًا في ما تعني الصورة من تاريخ مشهدي للأحداث، أو من تأويل سيميولوجي للمواقف والقضايا. صور قديمة نادرة، ملصقات، وثائق، بطاقات، رسوم وبورتريهات، تؤرّخ كلها للعلاقة القديمة بين باريس والعرب. وتغطّي الصور مراحل عدّة توزّعت خلال قرنين، ومعالم وصروحاً يمكن تعداد لقطات تجمع بين الموضوعية والجمالية، وبرزت تقنية الأسود والأبيض ببهائها القديم إضافة إلى الألوان. ومن هذه الصور: جامع، باريس (تأسس عام 1926)، المستشفى الفرنسي الإسلامي (1935)، مقهى المغرب (1900)، سجاد الشرق (1896)، شهرزاد (1928)، مغاربة في السوق (1935)، في ظل الحريم (1927)، فلسطين والعرب (1959)، كاتب ياسين، أم كلثوم في الأولمبيا (1967)، معهد العالم العربي، زيدان، صحف عربية في باريس. تكمّل الصور والوثائق النصوص، وتتآزر كلها معًا لتصنع كتابًا فريدًا، يؤرّخ لباريس القرنين التاسع عشر والعشرين، ويؤرّخ في الوقت نفسه للحضور العربي في باريس، الذي بدأ في عصر نابليون بونابرت، مروراً بعصر نابليون الثالث وعصر شارل ديغول، وانتهاء بعصر جاك شيراك. إنها الأقدار والأجيال الوافدة والمتلاحقة، صنعت من باريس عاصمة عربية، وصنعت من عرب باريس ليس جالية فحسب، وإنما جماعات وبيئات مهاجرة مختلفة. وكم أصاب الذي سمّى باريس العربية (باريسات عربية)، نظرًا إلى تعدّد الإثنيات العربية والبيئات والهويات.