لم يكنْ تنبؤ نيتشه بأنَّ الأجيال القادمة ستتلقف أعماله وتنكبُ على قراءتها، وربما تضعها في مرتبة القداسة مجرد مواساةٍ للنفس وهروبًا من الواقع من خلال الارتماء في المبهم، بل استند هذا التوقع إلى ثقته بما تحمله أفكارهُ من جرأة مقارعة ما كان من الثوابت في الفكر الفلسفي آنذاك، لذا كلما مرَّ الوقتُ أكثر يكون الاقتراب من رؤية نيتشه على مستوى أعمق ممكنًا، ما يعنى أنّ أفكار صاحب "غسق الأوثان" تحتفظُ براهنيتها دومًا، ولا تنقطعُ عن خيط المُستقبل. وما يهم الإشارة إليه طالما يدور الحديثُ عن نيتشه، أنَّ حياة فريدريتش كانت مُعقدةً وعانى تجارب مؤلمة خصوصًا لجهة علاقته مع المرأة ومشاكله الصحية مع اعتقاده بأنَّ المرض انتشله من أفكار فاسدة، أضف إلى ذلك فإنَّ مواقفه المُتشددة زادته بُعدًا عن الآخرين وظلَّ وحيدًا لا سيما في سنواته الأخيرة، وتكفلت أمه وأخته برعايته وبهذا توفرت في مسيرة نيتشه عناصر درامية، فبالتالي تحولت مراحل حياة المبشر بإنسان السوبرمان إلى ثيمة رئيسة في خطابات روائية حيثُ سبق للكاتب الأمريكي إرفين د.يالوم أن تناول سيرة نخبة من فلاسفة أوروبا وعلى رأسهم نيتشه، في كتابه الموسوم "عندما بكى نيتشه". كذلك اقتفى مواطنه لانس أولسن من مواليده 1956 أثره في روايته "قبلات نيتشه" الصادرة من "دار التنوير" . بيروت. إذ يتوقف الروائي عند مراحل فارقة في حياة مؤلف "هكذا تكلم زرادشت" دون أن يتبعَ خطًّا زمنيًّا مُتصاعدًا، إنَّما يُؤثر أُسلوب التداعي بحيثُ تتماهى تركيبة الجمل والعبارات مع مقولات نيتشه، كما أنَّ الفِقرات التي تتفتحُ أقسام الرواية لا تخلو من نفحات نيتشوية الأمر الذي يضعُ المتلقي أمام ما يشكلُ بنية أساسية في منظومة أفكار من لم يوفرْ أسلافه من ضربات مطرقته. وهذا يأتي متوازيًا مع سرد ما عاشهُ الفيلسوفُ من أطوار مُختلفة ومُعاصرته لظروف وأوضاع عصيبة على الصعيد السياسي بين فرنسا وألمانيا. المؤلفُ يستحضرُ نيتشه في لحظة إحتفاء هتلر بعيد ميلاده في سنة 1934 برفقة أخته ليزابيث إذ تُقَدِمُ الأخيرة عصا أخيه هدية لهتلر. لحظات ضبابية كما أسلفنا القول إن المؤلف يتكيءُ على محطات في حياة نيتشه، إذ يبدأ القسم الأولُ بما يشبه مناجاة ذاتية ورحلة في الذاكرة، بينما يرقدُ صاحبُ "هذا هو الإنسان" في المستشفى متلفعًا بالملاءات، بالكاد يتعرفُ على ألفين التي تكسرُ عزلته الموحشة. في هذا السياق يُذكرُ بسمارك بوصفه رمزًا للإرادة والتفوق، عدا ذلك يردُ على لسان نيتشه وصف كل جملةٍ بِقُبلةِ وكلِ مَقْطَعٍ بمشروع الاحتضان، ويتخذُ شريط السرد في المقطع الذي يلي القسم الأول طابعًا منولوجيًّا مَحضًا حين يتحسس المريضُ جسدَهُ مبديًا استغرابه لما صار إليه من التدهور، ولم يَعُدْ بمقدوره أن يجوب شُعاب الجبل مُتَصَيدًا الأفكار التي لا تتوالدُ إلا في أوقات التريض والمشي، أكثر من ذلك تومض لحظات من مرحلة الشباب والمراهقة في ذهنه. كيف كان يبكرُ في الاستيقاظ استعدادًا للذهاب إلى المدرسة والاستنثناء الوحيد من هذه الدورة الحياتية كان يوم الأَحَد، يتواردُ كل ذلك من خلال جمل مُكثفة بالتزامن مع إبراز آراء نيتشه حول مفهوم السعادة التي رأى فيها ظاهرة مُعقدةً، وحنينه إلى لحظة مخاض فكرة جديدة عندما بلغ الثانية عشرة من العمر للتو. وما يزيدُ من ألمه هو الإقامة الجبرية بحكم المرض فيما يشبه زنزانة، ويستمرُ السردُ على هذا المنوال إلى أن يوكلَ المؤلفُ راويًا من الخارج لعرض مادته في القسم المعنون ب "الموسيقى بلا مُستقبل"، تتاشبكُ الأزمنة، وتتنافذ الأحداث المطابقة مع حياة نيتشه مع إيراد عنوان الأماكن التي قضى فيها سنوات طفولته مثل "نامبورغ" إذ يتضحُ مما يذكره مؤلف الرواية أن داعية "العود الأبدي" كان يتجاوبُ مع أجواء الطبيعة حيثُ تشعرهُ طافة المُناخ بالنشوة إلى حدٍ يطفحُ بالإمتلاء. ما يجدر بالذكر أن نيشته بعد استقالته من جامعة بازل أسرَّ برغبته لوالدته بأن يكون بستانيًّا. نساء نيتشه نشأَ أستاذ الفيلوجيا في أسرة حملت طابعًا أُنثويًّا، إذ فقد أباه وهو في السادسة من عمره، وأعقب خسارة الأب موت الأخ، ومن هنا قد يكون هناك سؤالُ عن سبب تعثر علاقة نيشته مع المرأة، لماذا أقرت النساء التي تعرف عليهنَّ بعبقريته وتطلعنَّ لِصداقته دون اختياره شريكًا للحياة. لم يُهْمِلْ لانس أولسن هذا الجانب في حياة مَنْ وصف نفسه بالديناميت، طبعًا لو سالومي الفتاة الروسية التي عُرفت بفاتنة الفلاسفة هي الحلقة الأولى التي يُفردُ لها الكاتبُ مساحة واسعة في الرواية ويروي تفاصليها بدءًا باللقاء وتبادل الإعجاب في سنة 1882 لدي مالفيدا إذ يُطَعَمُ مشهد اللقاء بما يتخيله من تصرفات نيشته وحساسيته في التعامل ومن ثُمَّ يدسُ رسالة تحت باب غرفة لو سالومي مكتوبة فيها جُملةُ موجزة "أي كواكب هي التي جمعتنا معًا"، ويفاجأُ صديقه لودفينغ راي مطالبًا إياه بإبلاغ لو سالومي بما يكنه لها من الحب والإعجاب ورغبته للزواج بها. وما يُضيفُ بعدًا مميزًا لهذا الموقف ليس توسل نيتشه برفيق المهنة ولا ما تلمسه من التوتر الذي يتغلغل في لحظات الترقب فحسب، بل إلحاح نيتشه من صديقه بتنفيذ الطلب هنا يأتي السرد مراوغًا ولا يستجيبُ لفضول القاريء، وما ينتظره من رد فعل نيتشه بل تنحو المقاطع المتتالية منحى هذيانيًّا إذ يتخيلُ المُحب للرمز الديونيزي وجود لو سالومي متجولة في الشوارع الرومانية تتكلم عن الإرادة، ولا تنتهى محاولات نيتشه لإقناع سالومي عند هذا الحد بل يطلب يدها مباشرة، غير أنَّ الجواب الذي يتلقاه يخيب أمله تمامًا. ولا تفوت المؤلف الإشارة إلى قصة نيتشه مع ماتيلد ورفض الأخيرة لطلبه بالزواج، وكان نيتشه يحملُ نفسه مسؤولية هذه الخيبات العاطفية، وأن النساء اللائي وقع في حبهنَّ تميزنَّ بحدة الذكاء والمراوغة، وراح البعضُ ضحية لهنَّ انتحارًا أو جنونًا. مقلبُ آخر من الرواية يَعرضُ ما يتحمله نيتشه من صعوبات لنشر مؤلفاته ومنها "هكذا تكلم زرادشت" على نفقته الخاصة، بالمقابل لم يلمس تجاوبًا لدى القُراء، ويكثرُ الاستشهادُ بمثولوجيا اليونانية في هذه الرواية نظرًا لإعتماد نيتشه على التراث اليوناني لبناء أركان فلسفته. كما يتفاعلُ النص مع آراء آرثر شوبنهاور خصوصًا إشادته بالعزلة وتشاؤمه بالحياة. نيتشه فورهر من المعلوم أن هتلر كان معجبًا بنيتشه، بل هناك يذهبُ إلى القول بأنَّ فورهر قد استمدَّ ما كان يؤمن بتفوق الجنس الآري من فلسفة نيتشه، لذا يستحضرُ المؤلفُ نيتشه في لحظة احتفاء هتلر بعيد ميلاده في سنة 1934 برفقة أخته ليزابيث إذ تُقَدِمُ الأخيرة عصا أخيه هدية لهتلر. وما يجبُ ذكره أن المتلقي يتابعُ هذه المناسبة من وجهة نظر نيتشه الذي يصفُ هتلر بالرجل العابس القصير ويوميء إلى إهتمامه بالفن التشكيلي، وما خلف لديه الشعور بالمرارة عندما لم يُقبل طالبًا في الأكاديمية، زدْ على ذلك فإن لانس أولسن لا يتجاهل زهد نيتشه بالعلاقات الحسية وتجربته الخجول في منزل الهوى مع أنغريد وفق المؤلف في استرجاع لحظة ميلاد نيتشه في نهاية الرواية وما تقوله القابلة لأمه فرنشيسكا أن المولود يطبعُ قبلة على جبين المستقبل، كأن لانسن استوحى هذه المشهد من قناعة نيتشه أن ولادته الحقيقية تبدأ بعد موته.