انتخابات الشيوخ 2025.. التنسيقية: لجان الاقتراع في نيوزيلاندا تغلق أبوابها    تجهيز 476 لجنة انتخابية ل«الشيوخ».. 12 مرشحا يتنافسون على 5 مقاعد فردي بالمنيا    «الاتصالات» تطلق مسابقة «Digitopia» لدعم الإبداع واكتشاف الموهوبين    روسيا: تحرير بلدة "ألكساندرو كالينوفو" في دونيتسك والقضاء على 205 مسلحين أوكرانيين    نقابة الموسيقيين تعلن دعمها الكامل للقيادة السياسية وتدين حملات التشويه ضد مصر    الكوري سون يعلن نهاية مسيرته مع توتنهام الإنجليزي    تفاصيل القبض على سوزي الأردنية وحبس أم سجدة.. فيديو    إصابة 5 أشخاص فى حادث انقلاب ميكروباص بطريق "بلبيس - السلام" بالشرقية    «تيشيرتات في الجو».. عمرو دياب يفاجئ جمهور حفله: اختراع جديد لأحمد عصام (فيديو)    لا تتسرع في الرد والتوقيع.. حظ برج الجوزاء في أغسطس 2025    الصحة: حملة 100 يوم صحة قدمت 26 مليونا و742 ألف خدمة طبية مجانية خلال 17 يوما    استجابة ل1190 استغاثة... رئيس الوزراء يُتابع جهود اللجنة الطبية العليا والاستغاثات خلال شهر يوليو 2025    مبابي: حكيمي يحترم النساء حتى وهو في حالة سُكر    هايد بارك ترعى بطولة العالم للاسكواش للناشئين 2025 تحت 19 عامًا    "قول للزمان أرجع يا زمان".. الصفاقسي يمهد لصفقة علي معلول ب "13 ثانية"    الاستعلامات: 86 مؤسسة إعلامية عالمية تشارك في تغطية انتخابات الشيوخ 2025    المصريون في الرياض يشاركون في انتخابات مجلس الشيوخ 2025    طعنة غادرة أنهت حياته.. مقتل نجار دفاعًا عن ابنتيه في كفر الشيخ    أمطار على 5 مناطق بينها القاهرة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس خلال الساعات المقبلة    رئيس عربية النواب: أهل غزة يحملون في قلوبهم كل الحب والتقدير لمصر والرئيس السيسي    النقل: استمرار تلقي طلبات تأهيل سائقي الأتوبيسات والنقل الثقيل    60 مليون جنيه.. إجمالي إيرادات فيلم أحمد وأحمد في دور العرض المصرية    رئيس جامعة بنها يعتمد حركة تكليفات جديدة لمديري المراكز والوحدات    وديًا.. العين الإماراتي يفوز على إلتشي الإسباني    استقبال شعبي ورسمي لبعثة التجديف المشاركة في دورة الألعاب الأفريقية للمدارس    المصريون بالسعودية يواصلون التصويت في انتخابات «الشيوخ»    انطلاق قمة «ستارت» لختام أنشطة وحدات التضامن الاجتماعي بالجامعات    مراسل إكسترا نيوز: الوطنية للانتخابات تتواصل مع سفراء مصر بالخارج لضمان سلاسة التصويت    الثقافة تطلق الدورة الخامسة من مهرجان "صيف بلدنا" برأس البر.. صور    «بيت الزكاة والصدقات»: غدًا صرف إعانة شهر أغسطس للمستحقين    هل يشعر الأموات بما يدور حولهم؟ عالم أزهري يجيب    تعاون بين «الجمارك وتجارية القاهرة».. لتيسير الإجراءات الجمركية    «يونيسف»: مؤشر سوء التغذية في غزة تجاوز عتبة المجاعة    «الصحة» تطلق منصة إلكترونية تفاعلية وتبدأ المرحلة الثانية من التحول الرقمي    مفاجأة.. أكبر جنين بالعالم عمره البيولوجي يتجاوز 30 عامًا    استمرار انطلاق أسواق اليوم الواحد من كل أسبوع بشارع قناة السويس بمدينة المنصورة    شكل العام الدراسي الجديد 2026.. مواعيد بداية الدراسة والامتحانات| مستندات    تنظيم قواعد إنهاء عقود الوكالة التجارية بقرار وزاري مخالف للدستور    انخفاض الطن.. سعر الحديد اليوم السبت 2 أغسطس 2025 (أرض المصنع والسوق)    تنسيق المرحلة الثانية للثانوية العامة 2025.. 5 نصائح تساعدك على اختيار الكلية المناسبة    ترامب: ميدفيديف يتحدث عن نووي خطير.. والغواصات الأمريكية تقترب من روسيا    22 شهيدا في غزة.. بينهم 12 أثناء انتظار المساعدات    النشرة المرورية.. سيولة فى حركة السيارات على طرق القاهرة والجيزة    زلزال بقوة 5.6 درجة يضرب قبالة سواحل مدينة كوشيرو اليابانية    أيمن يونس: شيكابالا سيتجه للإعلام.. وعبد الشافي سيكون بعيدا عن مجال كرة القدم    ترامب يخطو الخطوة الأولى في «سلم التصعيد النووي»    90 دقيقة تأخيرات «بنها وبورسعيد».. السبت 2 أغسطس 2025    حروق طالت الجميع، الحالة الصحية لمصابي انفجار أسطوانة بوتاجاز داخل مطعم بسوهاج (صور)    رسميًا.. وزارة التعليم العالي تعلن عن القائمة الكاملة ل الجامعات الحكومية والأهلية والخاصة والمعاهد المعتمدة في مصر    سعر الذهب اليوم السبت 2 أغسطس 2025 يقفز لأعلى مستوياته في أسبوع    الصفاقسي التونسي يكشف تفاصيل التعاقد مع علي معلول    عمرو دياب يشعل العلمين في ليلة غنائية لا تُنسى    استشارية أسرية: الزواج التقليدي لا يواكب انفتاح العصر    مقتل 4 أشخاص في إطلاق نار داخل حانة بولاية مونتانا الأمريكية    مشاجرة بين عمال محال تجارية بشرق سوهاج.. والمحافظ يتخذ إجراءات رادعة    أمين الفتوى: البيت مقدم على العمل والمرأة مسؤولة عن أولادها شرعًا (فيديو)    هل يشعر الأموات بما يدور حولهم؟ د. يسري جبر يوضح    وزير الأوقاف يؤدي صلاة الجمعة من مسجد الإمام الحسين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نيتشه دون جوان المعرفة
نشر في صوت البلد يوم 04 - 03 - 2020

يتأخر الاعتراف بأصحاب الأفكار الرائدة، ويعاني هؤلاءُ في زمانهم وينبذهم المجتمعُ، وقد يتعرضون لملاحقة السلطات المحافظة. هذا كان قدرُ معظم المفكرين والفلاسفة الذين نفضوا الغبار على العقليات الراكدة وأضاءَت طروحاتهم العُتمة والمجهول في حركة التاريخ، ولئن ضاق الخناق على أصحاب المشاريع الجديدة في عصرهم فإنَّ التحولات اللاحقة تؤكدُ عبقريتهم وجدارة رؤيتهم.
ويأتي فريدريك نيتشه في طليعة الشخصيات الفكرية المؤثرة في مسار تطور الفكر الفلسفي، ولا ينسحبُ مؤلف "هكذا تكلم زرادشت" من على مسرح التاريخ إذ ما قدمهُ أقطاب المدرسة التفكيكية ليس إلا امتدادًا لنظرته حول استحالة الوصول إلى الحقيقة، وهو يقول في رسالته إلى أخته "إذا رغبت في تحصيل راحة البال والسعادة فعليك بالإيمان، أما إذا رغبت في أن تكوني من مريدي الحقيقة عند ذاك عليك بالبحث". أكثر من ذلك فإنَّ المفكر والروائي الفرنسي ألبير كامو قد استلهم آراء نيتشه واقتنع على غرار فيلسوف الريبة بأنَّ الإنشغال بالميتافيزقيا لا طائل منه، بل يشبه نيتشه معرفة بهذا العالم بمعرفة بحار يواجه تحطيم سفينته في عرض البحر لتركيبة الماء الكيميائية. تجد صدى هذه الفكرة في رواية "الطاعون".
ضف إلى ذلك فإنَّ مروق كامو من طوق الأيدولوجيا يذكرك بالأطوار التي مرَّ بها نيتشه بدءًا من تأثره بشوبنهاور، ومن ثمَّ ولاؤه لفاغنر حيثُ اعتبر موسيقاه "فعل الخلاص من دناءة هذا العالم" مرورًا بتأثره ب "بول ريه" إلى أن يتمردَ على من وصفهم بالأساتذة والمثل العليا، ويثور على العقل والعلم معلنًا بأنَّ الجنون وحده يعبدُ الطريق للأفكار الجديدة التي حطمت الخرافات وعادات التقديس، كما تبنى جورج برنادشو بدوره مفهوم الإنسان الأعلى وتقاطعت رؤيته لصيرورة الأفكار مع نيتشه، فبرأي شو أنْ تتخذُ الفكرةُ شكل العقيدة حتى تتجمد.
لا تنفصل فلسفة نيتشه عن ظروف حياته وخيباته المتتالية على الصعيد العاطفي وسأمه من قيد العائلة.
يتناولُ الكتاب الذي صدر حديثًا بعنوان "أنا عبوة ديناميت" من تأليف الكاتبة الإنجليزية سو بريدو مفاصل محورية في حياة نيتشه، وتكوين أسرته وعلاقته بالأصدقاء وألمعيته في دراسة علم الفيلولوجيا إلى أن يبدي تبرمه منه، هذا إضافة إلى رصد صداقاته المُتقلبة ودور المرأة في تركيبة شخصيته وانعكاس أزماته العاطفية على صحته وتتوقفُ الكاتبة عند اهتمام نيتشه بالموسيقى التي اعتبرها تصحيحًا للحياة.
بدايات
نشأَ نيتشه في بيئة متدينة، كان أبوه قسًّا، وما مرَّت إلا ثلاث سنوات على ولادته حتى يتوفى كارل نيتشه بعد إصابته بمرض الأعصاب، وهذا الحدث يلقي بظلاله على حياة الابن على أكثر من مستوى، إذ تدور شبهة الجنون حوله في السنوات اللاحقة باعتباره وريثًا لمرض شائع في العائلة. أرادت الأمُ فرانشيسكا حماية ابنيها من الأجواء الكئيبة التي سادت في البيت إذ أنَّ وجود إيردمث جدة نيتشه قد زاد من قتامة الظروف الأسرية وأقامت فرانشيسكا في أسوء غرفتين، ولم تتمكن من الاستقلال على رغم من المعاش التقاعدي الذي تتلقاه للأرامل.
لا يمضي كثير من الوقت حتى تنتقلُ الأسرةُ إلى "ناومبورغ" التي كانت مدينة مخيفة بالنسبة لنيتشه وأخته فمن الصعب الخروج من الريف والانغماس في مناخ مدينة كبيرة، غير أنَّ نيتشه يدرك طبعية ناومبورغ مع تعاقب الأيام وشهدت المدينة صحوة عقلانية وأصبح الدين والمباديء الكاثولكية أقل تأثيرًا على نمط الحياة، وما لفت اهتمام نيتشه في تلك المدة الزمنية هو حرب القرم، حيث تابع ابنُ القس مع أصدقائه الأخبار الواردة من الحرب فصرف فلوسه لشراء ألعاب على شكل جنود وانهمكَ برفقة أقرانه على الخرائط صنعوا نماذج لساحات القتال وفي غضون ذلك كتبَ "نيتشه" مسرحيتين وأقنع صديقيه وأخته بالمشاركة في التمثيل أمام الأسرة. وماكان يتمتعُ به الطفل النابغ من الذكاء الحاد والدقة في الكلام قد أسبغا عليه الخصوصية هذا فضلاً عن قصر النظر الذي حد من علاقته مع أترابه في المدرسة إذ وصف بالقس ما أثار غيظه.
نتيشه والموسيقى
كان نيتشه شغوفًا بالموسيقى منذ صغره لدرجة أحبها أكثر من الكلام واقتنع أفرادُ عائلته بأنه سيصبحُ موسيقيًّا، كما تميز بهدوئه وهو طفل بحيثُ لم يسمح كارل لودفيغ نيتشه لغير ابنه بالتواجد في مكتبه أثناء انكبابه على أعماله في الأبرشية.
يذكر أنَّ والد فريدريك تفوق في العزف واشتغل أسلاف نيتشه في المهن الحرة إلى أن نقل جده بالعائلة نحو المسلك الكنيسي. ورفع مكانته عندما تزوج بإيردمث كراوس ابنة رئيس الشمامسة.
لا يصحُ الحديثُ عن نيتشه دون تأمل دور فاغنر في شخصيته، إذ يكشفُ مؤلف "فالكيري" بينما كان طالبًا في المدرسة يقول نيتشه "كان يمكن لمرحلة شبابي أن تكون كريهةً لولا موسيقى فاغنر" تطورت العلاقة بين قطبين وكان نيتشه ضيفًا مرحبًا به لدى أسرة فاغنر تريبشن، فإنَّ الأخير قد أعجبَ بشخصية نيتشه منذ اللقاء الذي قد جمع بين الاثنين في قصر بروكهاوس.
لقد حققت فرانشيسكا رغبة ابنها وهو طفل عندما اشترت له بيانو وعلمت نفسها العزف حتى تعينه على تنمية ذائقته الموسيقية. ويعودُ فضل حماية ما ألفه نيتشه من الألحان إلى أمه وأخته اللتين احتفظتا بكل ما كتبه الطفل المعبود.
يذكر أنَّ نيتشه كانت له حظوة كبيرة لدى إليزابيث وفرانشيسكا وقد مثل كل شيء بالنسبة لهما. مع ما يكتنفُ أجواء البيت من التدين والتمسك بالطقوس الدينية لكن بذور التمرد على المقدس قد نمت لدى نيتشه وهو في الثانية عشرة من عمره. يلتحقُ نيتشه بمدرسة بفورتا وكان يردد "بفورتا بفورتا كل ما أحلمُ به بفورتا" مبنى المدرسة أنشيء في الأصل ديرًا تزامن دخول نيتشه إلى النظام التعليمي مع إجراء التعديلات في هذا السلك وقادَ فيلهلم فون همبولت ثورة على هذا الصعيد.
طبائع شخصية نيتشه تظهر مع مضي الوقت فيما ينشرُ مقالًا مدرسيًّا عن شاعره المفضل هولدرلين. ينصحه معلمه بأن يلتزم بشعراء أكثر وضوحًا ومقبولية وارتباطًا بهويتهم الألمانية. تمرُ نصيحة المعلم كما غيمة الصيف، ويكتبُ عن إمبيدوكليس على غرار هولدرلين فكان إمبيدوكليس وفقًا لما ورد في الأسطورة قد وضع حدًّا لحياته بالقفز فوق فوهة البركان متوقعًا بأنَّه سيصبحُ إلهًا.
يضمُ نيتشه إلى الخدمة العسكرية ويتلقى دروسًا عن ركوب الخيل غير أنَّ هذه التجربة كانت متعثرةً، ويتهشم صدره نتيجة سوء تقدير المسافة عندما توثب إلى ظهر الحصان وبعدما يتعافى من الجروح يباشر نيتشه العمل في نشاطاته الأكاديمية، ويصبح أستاذًا في جامعة بازل أوصى ريتشل بتلميذه النابغ.
سياط نيتشه
ساد الإعتقادُ بأنَّ نيتشه عدو للمرأة وأصبحت عبارته "لاتنسَ السوط وأنت ذاهب إلى المرأة" حجةً عليه وذهبَ البعضُ إلى أنَّ فشله العاطفي وكراهيته للبيئة الأسرية المطبوعة بالسلطة النسوية هو السبب وراء هذه الخصوم. وأضاف الآخرون عاملاً آخر وهو ارتياد نيتشه إلى بيت الدعارة ما أورثه الخوف من الإصابة بالسفلس، لكن ما خفي على هذا المستوى أعظمُ، كانت لنيتشه صديقات وتواصلَ مع كثير من النساء، صحيح أنَّ "لوسالومي" فاقت شهرةً على غيرها وصفها نيتشه بأنها كانت ندًّا له أو أناه البديلة على حد تعبيره ودام الحديثُ بين الاثنين في إحدى المرات لمدة عشر ساعات، وتناولا مفهوم العود الأبدي، وعندما لا يفلح في إقناعها بالزواج تنتكسُ صحتهُ ويقولُ بمقطع من شذراته بأنَّ المرأة لا تموت من الحب لكنها تذوي بحثًا عنه.
والغريب في هذا الإطار أنَّ صاحب عبارة "أحب مصيرك" قد وصل لحالة بائسة يذكر في رسالته إلى أوفربيك وبتر غاست "إنَّ فوهة المسدس بالنسبة لي في هذه اللحظة مصدر أفكار ممتعة نسبيًّا".
عدا سالومي قد أعجب نيتشه بكوزيما التي اتصفت بشخصية جذابة وصاحب المرأة الإيطالية مالويدا وريزا فون شر نهوفر، فالأخيرة كانت طالبة للدكتوراه ما أن رأت نيتشه حتى تبددت شكوكها حول شخصيته أكثر من ذلك قد وقع نيتشه في حب لويز أوت التي تعرف عليها في مهرجان بايروت ويغضبُ على نفسه لأنه لم يبق في ميلان من أجل راقصة بالية صادفها في محطة القطار. تستفيضُ سو بريدو في تناول الجانب العاطفي في شخصية نيتشه ومواصفات المرأة التي تكسبُ ثقته.
عاش نيتشه حياةً صعبة وقاسية غير أنَّه كان متأكدًا بأنَّ مجده آتٍ مع المستقبل إضافة إلى إعجابه بكل من هولدرلين وستاندال وشوبنهاور، قد صعقَ ب "دوستويفكسي" وعندما يقرأُ "منزل الأموات" يقولُ "ابن بيتك قرب فيزوف". وما يجدر بالذكر أنَّ هذا الكتاب يغطي حياة نيتشه بكل أبعادها الفكرية والاجتماعية والتاريخية إذ لا تتجاهل المؤلفة المرحلة التاريخية التي عاش فيها مؤلف "أفول الأصنام"، وما يضيفُ مزيدًا من الأهمية إلى هذه السيرة هو تتبعُ مؤلفات نيتشه ودراسة العلاقة بين أسلوبه في الكتابة ومعاناته الصحية.
يتأخر الاعتراف بأصحاب الأفكار الرائدة، ويعاني هؤلاءُ في زمانهم وينبذهم المجتمعُ، وقد يتعرضون لملاحقة السلطات المحافظة. هذا كان قدرُ معظم المفكرين والفلاسفة الذين نفضوا الغبار على العقليات الراكدة وأضاءَت طروحاتهم العُتمة والمجهول في حركة التاريخ، ولئن ضاق الخناق على أصحاب المشاريع الجديدة في عصرهم فإنَّ التحولات اللاحقة تؤكدُ عبقريتهم وجدارة رؤيتهم.
ويأتي فريدريك نيتشه في طليعة الشخصيات الفكرية المؤثرة في مسار تطور الفكر الفلسفي، ولا ينسحبُ مؤلف "هكذا تكلم زرادشت" من على مسرح التاريخ إذ ما قدمهُ أقطاب المدرسة التفكيكية ليس إلا امتدادًا لنظرته حول استحالة الوصول إلى الحقيقة، وهو يقول في رسالته إلى أخته "إذا رغبت في تحصيل راحة البال والسعادة فعليك بالإيمان، أما إذا رغبت في أن تكوني من مريدي الحقيقة عند ذاك عليك بالبحث". أكثر من ذلك فإنَّ المفكر والروائي الفرنسي ألبير كامو قد استلهم آراء نيتشه واقتنع على غرار فيلسوف الريبة بأنَّ الإنشغال بالميتافيزقيا لا طائل منه، بل يشبه نيتشه معرفة بهذا العالم بمعرفة بحار يواجه تحطيم سفينته في عرض البحر لتركيبة الماء الكيميائية. تجد صدى هذه الفكرة في رواية "الطاعون".
ضف إلى ذلك فإنَّ مروق كامو من طوق الأيدولوجيا يذكرك بالأطوار التي مرَّ بها نيتشه بدءًا من تأثره بشوبنهاور، ومن ثمَّ ولاؤه لفاغنر حيثُ اعتبر موسيقاه "فعل الخلاص من دناءة هذا العالم" مرورًا بتأثره ب "بول ريه" إلى أن يتمردَ على من وصفهم بالأساتذة والمثل العليا، ويثور على العقل والعلم معلنًا بأنَّ الجنون وحده يعبدُ الطريق للأفكار الجديدة التي حطمت الخرافات وعادات التقديس، كما تبنى جورج برنادشو بدوره مفهوم الإنسان الأعلى وتقاطعت رؤيته لصيرورة الأفكار مع نيتشه، فبرأي شو أنْ تتخذُ الفكرةُ شكل العقيدة حتى تتجمد.
لا تنفصل فلسفة نيتشه عن ظروف حياته وخيباته المتتالية على الصعيد العاطفي وسأمه من قيد العائلة.
يتناولُ الكتاب الذي صدر حديثًا بعنوان "أنا عبوة ديناميت" من تأليف الكاتبة الإنجليزية سو بريدو مفاصل محورية في حياة نيتشه، وتكوين أسرته وعلاقته بالأصدقاء وألمعيته في دراسة علم الفيلولوجيا إلى أن يبدي تبرمه منه، هذا إضافة إلى رصد صداقاته المُتقلبة ودور المرأة في تركيبة شخصيته وانعكاس أزماته العاطفية على صحته وتتوقفُ الكاتبة عند اهتمام نيتشه بالموسيقى التي اعتبرها تصحيحًا للحياة.
بدايات
نشأَ نيتشه في بيئة متدينة، كان أبوه قسًّا، وما مرَّت إلا ثلاث سنوات على ولادته حتى يتوفى كارل نيتشه بعد إصابته بمرض الأعصاب، وهذا الحدث يلقي بظلاله على حياة الابن على أكثر من مستوى، إذ تدور شبهة الجنون حوله في السنوات اللاحقة باعتباره وريثًا لمرض شائع في العائلة. أرادت الأمُ فرانشيسكا حماية ابنيها من الأجواء الكئيبة التي سادت في البيت إذ أنَّ وجود إيردمث جدة نيتشه قد زاد من قتامة الظروف الأسرية وأقامت فرانشيسكا في أسوء غرفتين، ولم تتمكن من الاستقلال على رغم من المعاش التقاعدي الذي تتلقاه للأرامل.
لا يمضي كثير من الوقت حتى تنتقلُ الأسرةُ إلى "ناومبورغ" التي كانت مدينة مخيفة بالنسبة لنيتشه وأخته فمن الصعب الخروج من الريف والانغماس في مناخ مدينة كبيرة، غير أنَّ نيتشه يدرك طبعية ناومبورغ مع تعاقب الأيام وشهدت المدينة صحوة عقلانية وأصبح الدين والمباديء الكاثولكية أقل تأثيرًا على نمط الحياة، وما لفت اهتمام نيتشه في تلك المدة الزمنية هو حرب القرم، حيث تابع ابنُ القس مع أصدقائه الأخبار الواردة من الحرب فصرف فلوسه لشراء ألعاب على شكل جنود وانهمكَ برفقة أقرانه على الخرائط صنعوا نماذج لساحات القتال وفي غضون ذلك كتبَ "نيتشه" مسرحيتين وأقنع صديقيه وأخته بالمشاركة في التمثيل أمام الأسرة. وماكان يتمتعُ به الطفل النابغ من الذكاء الحاد والدقة في الكلام قد أسبغا عليه الخصوصية هذا فضلاً عن قصر النظر الذي حد من علاقته مع أترابه في المدرسة إذ وصف بالقس ما أثار غيظه.
نتيشه والموسيقى
كان نيتشه شغوفًا بالموسيقى منذ صغره لدرجة أحبها أكثر من الكلام واقتنع أفرادُ عائلته بأنه سيصبحُ موسيقيًّا، كما تميز بهدوئه وهو طفل بحيثُ لم يسمح كارل لودفيغ نيتشه لغير ابنه بالتواجد في مكتبه أثناء انكبابه على أعماله في الأبرشية.
يذكر أنَّ والد فريدريك تفوق في العزف واشتغل أسلاف نيتشه في المهن الحرة إلى أن نقل جده بالعائلة نحو المسلك الكنيسي. ورفع مكانته عندما تزوج بإيردمث كراوس ابنة رئيس الشمامسة.
لا يصحُ الحديثُ عن نيتشه دون تأمل دور فاغنر في شخصيته، إذ يكشفُ مؤلف "فالكيري" بينما كان طالبًا في المدرسة يقول نيتشه "كان يمكن لمرحلة شبابي أن تكون كريهةً لولا موسيقى فاغنر" تطورت العلاقة بين قطبين وكان نيتشه ضيفًا مرحبًا به لدى أسرة فاغنر تريبشن، فإنَّ الأخير قد أعجبَ بشخصية نيتشه منذ اللقاء الذي قد جمع بين الاثنين في قصر بروكهاوس.
لقد حققت فرانشيسكا رغبة ابنها وهو طفل عندما اشترت له بيانو وعلمت نفسها العزف حتى تعينه على تنمية ذائقته الموسيقية. ويعودُ فضل حماية ما ألفه نيتشه من الألحان إلى أمه وأخته اللتين احتفظتا بكل ما كتبه الطفل المعبود.
يذكر أنَّ نيتشه كانت له حظوة كبيرة لدى إليزابيث وفرانشيسكا وقد مثل كل شيء بالنسبة لهما. مع ما يكتنفُ أجواء البيت من التدين والتمسك بالطقوس الدينية لكن بذور التمرد على المقدس قد نمت لدى نيتشه وهو في الثانية عشرة من عمره. يلتحقُ نيتشه بمدرسة بفورتا وكان يردد "بفورتا بفورتا كل ما أحلمُ به بفورتا" مبنى المدرسة أنشيء في الأصل ديرًا تزامن دخول نيتشه إلى النظام التعليمي مع إجراء التعديلات في هذا السلك وقادَ فيلهلم فون همبولت ثورة على هذا الصعيد.
طبائع شخصية نيتشه تظهر مع مضي الوقت فيما ينشرُ مقالًا مدرسيًّا عن شاعره المفضل هولدرلين. ينصحه معلمه بأن يلتزم بشعراء أكثر وضوحًا ومقبولية وارتباطًا بهويتهم الألمانية. تمرُ نصيحة المعلم كما غيمة الصيف، ويكتبُ عن إمبيدوكليس على غرار هولدرلين فكان إمبيدوكليس وفقًا لما ورد في الأسطورة قد وضع حدًّا لحياته بالقفز فوق فوهة البركان متوقعًا بأنَّه سيصبحُ إلهًا.
يضمُ نيتشه إلى الخدمة العسكرية ويتلقى دروسًا عن ركوب الخيل غير أنَّ هذه التجربة كانت متعثرةً، ويتهشم صدره نتيجة سوء تقدير المسافة عندما توثب إلى ظهر الحصان وبعدما يتعافى من الجروح يباشر نيتشه العمل في نشاطاته الأكاديمية، ويصبح أستاذًا في جامعة بازل أوصى ريتشل بتلميذه النابغ.
سياط نيتشه
ساد الإعتقادُ بأنَّ نيتشه عدو للمرأة وأصبحت عبارته "لاتنسَ السوط وأنت ذاهب إلى المرأة" حجةً عليه وذهبَ البعضُ إلى أنَّ فشله العاطفي وكراهيته للبيئة الأسرية المطبوعة بالسلطة النسوية هو السبب وراء هذه الخصوم. وأضاف الآخرون عاملاً آخر وهو ارتياد نيتشه إلى بيت الدعارة ما أورثه الخوف من الإصابة بالسفلس، لكن ما خفي على هذا المستوى أعظمُ، كانت لنيتشه صديقات وتواصلَ مع كثير من النساء، صحيح أنَّ "لوسالومي" فاقت شهرةً على غيرها وصفها نيتشه بأنها كانت ندًّا له أو أناه البديلة على حد تعبيره ودام الحديثُ بين الاثنين في إحدى المرات لمدة عشر ساعات، وتناولا مفهوم العود الأبدي، وعندما لا يفلح في إقناعها بالزواج تنتكسُ صحتهُ ويقولُ بمقطع من شذراته بأنَّ المرأة لا تموت من الحب لكنها تذوي بحثًا عنه.
والغريب في هذا الإطار أنَّ صاحب عبارة "أحب مصيرك" قد وصل لحالة بائسة يذكر في رسالته إلى أوفربيك وبتر غاست "إنَّ فوهة المسدس بالنسبة لي في هذه اللحظة مصدر أفكار ممتعة نسبيًّا".
عدا سالومي قد أعجب نيتشه بكوزيما التي اتصفت بشخصية جذابة وصاحب المرأة الإيطالية مالويدا وريزا فون شر نهوفر، فالأخيرة كانت طالبة للدكتوراه ما أن رأت نيتشه حتى تبددت شكوكها حول شخصيته أكثر من ذلك قد وقع نيتشه في حب لويز أوت التي تعرف عليها في مهرجان بايروت ويغضبُ على نفسه لأنه لم يبق في ميلان من أجل راقصة بالية صادفها في محطة القطار. تستفيضُ سو بريدو في تناول الجانب العاطفي في شخصية نيتشه ومواصفات المرأة التي تكسبُ ثقته.
عاش نيتشه حياةً صعبة وقاسية غير أنَّه كان متأكدًا بأنَّ مجده آتٍ مع المستقبل إضافة إلى إعجابه بكل من هولدرلين وستاندال وشوبنهاور، قد صعقَ ب "دوستويفكسي" وعندما يقرأُ "منزل الأموات" يقولُ "ابن بيتك قرب فيزوف". وما يجدر بالذكر أنَّ هذا الكتاب يغطي حياة نيتشه بكل أبعادها الفكرية والاجتماعية والتاريخية إذ لا تتجاهل المؤلفة المرحلة التاريخية التي عاش فيها مؤلف "أفول الأصنام"، وما يضيفُ مزيدًا من الأهمية إلى هذه السيرة هو تتبعُ مؤلفات نيتشه ودراسة العلاقة بين أسلوبه في الكتابة ومعاناته الصحية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.