الأديب والصحافي الشاعر الكبير الورداني ناصف أحد كبار الشعراء، والفاعلين في الحياة الثقافية بصالونه الأدبي الشهير، ظل حتى آخر يوم في حياته الخصبة يقدم العطاء الفكري والإبداعي عبر الكتابة والإشراف على الصفحات الثقافية السيارة، وعبر إدارته لصالونه المعروف. فلم يكن يقنع أن تظل الكلمة ساكنة، منطوية على ذاتها، بل أراد لها أن تكون محلقة في أفق الواقع تنسج حلمًا، وتؤسس قيمًا، وتنهض بالحياة، والشواهد كثر على هذا القول، منها ما قيل عنه: "يجوب بقاع مصر سنويًّا من أسوان إلي الإسكندرية ليقلٌب في التربة بحثًا عن مواهب، وهناك جيل كامل في الساحة أفراده ينتشرون شرقًا وغربًا يدينون بالفضل له". لم يكتف الورداني ناصف بصالونه الأدبي والذي يستقبل فيه عشاق الأدب كل يوم أربعاء، بل تجول في أنحاء مصر بل والدول العربية يرصد نبات الإبداع ويمده بالدعم، مع تمتعه بالجانب الإنساني الرحب، والكتابة الناشطة التي انصبت نحو الحياة الثقافية وإصلاح الشأن الأدبي، بل جعل الأدب وسيلة شاملة لارتقاء المجتمع، والأدب فعلًا كذلك، فالقضية عنده ليست أن يلقي الأديب نصه الإبداعي في ملتقى أدبي ثم يمضي منتشيًا وكفي، بل الأمر كيف تتحول تلك الرؤى والقيم والأفكار التي عبّأ بها الأديب نصه الإبداعي إلى واقع يعاش، لذلك نجد أنه اجتهد في كتابة المقالات يناقش من خلالها قضايا ومشكلات الحياة الفكرية والثقافية مستندا في ذلك لرؤيته تلك وخبرته الواسعة في الشأن الثقافي. ولم يكن تصويبه فقط للحياة الثقافية، بل دعوته لتصويب السلوك الإنساني بعامه، ودعمه ليكون سلوكًا نبيلًا من هذا المنطلق كانت قصيدته "أبي قال لي"، وهى قصيدة تحمل الوصايا التي يهديها الأب بخبرته إلى ابنه يرشده بها في دروب الحياة، بل يمكن أن نقول إنها "وصفة السعادة"، وأعتقد أن كل عاشق للأدب الجميل يحب هذه القصيدة إذ أنها تتماس لا محالة مع نداء الخلق القويم ورحابته والتي تطوف به حول جانب آخر من الحياة الكريمة، والتي تنفي في الوقت ذاته قتامة الأدب وسوداويته المفجعة والتي جعلت أرواحنا محتقنة، بل وتصف الحياة وكأنها بسبيلها نحو الدمار والعبث كما نقرأ كثيرًا هذه الأيام. قرأت القصيدة فأدركت أنني أمام نص إبداعي يستمد وهجه من تلك الأصالة، كيف أن الأب يهدي شعره ونثره إلى ولده، وكيف كانت الأم العربية تهدي وصاياها لابنتها تحثها بها نحو غرس ثمار السعادة في حياتها الأسرية واجتنائها أيضًا، وكلنا يذكر وصية الأم في ليلة عرس ابنتها قالت لها مرشدة "كوني لزوجك أمه يكن لك عبدًا"- فأين المجتمع العربي من أدب الوصايا وساحات المحاكم تغص بالملايين وقد غاضت صدورهم بالأحقاد والإحن وفي إحصائية تسعة ملايين قضية. هذا ما تنبه له وجداني وأنا أطالع القصيدة لأول مرة، أنها تطل علينا بوجهها المشرق من الزمن الجميل، زمن تزينه العفوية ونصاعة الشهامة، وألحان السعادة العذبة، يقول فى استهلال القصيدة: "وحين تفتح عينيك كل صباح فبسمل.. وحمدل وقل لا إله سوى الله هلل.. وكبر تكن دائما في صفا وارتياح وقم من سريرك.. وارفع يديك وعينيك نحو السماء وقل – صافي القلب – أستغفر الله من كل ذنب ومن أي ذنب ومن كل داء وصل له ركعتين إذا ما توضأت واشكره أجزل له في الثناء تضرع إليه بشوق وسله تراه يمد إليك جسور العطاء أدرك بني بأن اللجوء إلى الله غنمٌ وأن الخضوع علا وارتقاء" والقصيدة نبعت من نبع القرآن الكريم واقتبست من إشعاعاته المبهرة المشرقة بالعطاء، فكأن الكاتب امتزجت روحه بسورة لقمان وهو يعظ ابنه، كما يضمن من آيات القرآن الكريم من سورة الإسراء: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} (الإسراء37)، والتناص مع التراث الشعرى أيضًا بقصيدة التفاؤل "كن جميلًا" لإيليا أبوماضي، يقول: "أبي قال لي: إذا سرت في الأرض فاضرب برفق فإنك (لن تخرق الأرض) يوما ولن تبلغ الطود طولا ولو جاءك البعض كي يسألوك ويلقوا عليك كلاما ثقيلا فرد عليهم بدون استياء وقل دون طمس الحقيقة قولًا يريح القلوب ويبري العليلا ولو حاول الشر أن يحتويك فأطبق عليه جناحيك واكبح جماحك تنظره يخبو قليلًا قليلًا فمن يعمل العقل في كل شيء فسوف يرى كل شيء جميلًا" وظلت مشاعري ينتابها قلق عاصف من أن تتبدل محاور القصيدة لترنو إلي واقعنا البائس، لكنها لم تكن كذلك، ولعل الشاعر فطن أن علاج الشر لا يكون إلا بالحب، وأن دواء الحقد لا يكون إلا بالحكمة والعفو، وأن بهجة العمر لا تكون إلا برحابة الخلق، وعلى هذا نصت الشرائع السماوية، واشتملت النصوص الشريفة والفكر النير الذي يحمل نظرة خبيرة بطبائع البشر وحقائق الحياة، يقول: "تزود من العلم لو شئت نفعًا وبالفكر لو رمت بعض الكمال فبالعلم تسمو دوامًا وترقى وبالفكر تصبح أذكى الرجال ولو غلف الحب قلبا جحودا لرق وأضحى يسير المنال" ويقول في موطن آخر من القصثيدة: "إذا قلت قولًا فكن صادقًا ولا تك فظًّا ولا حانقًا فبالصدق يخضر وجه الحياة ويصبح فجر الرؤى مشرقًا" ورغم ذلك نطرح السؤال: هل كانت القصيدة مباشرة في صياغتها لأنها تتحدث بالعظات والوصايا، وتصف الأخلاق الحسنة؟ والإجابة عندي: لم تكن كذلك لعدد من الأسباب بداية تلك اللغة الرفيقة الشاعرية والتي تقطر بالإشفاق والتأميل تربت على القلوب، والأمر الآخر أنها تدرك لحظات الضعف وتقرها وتعترف بها وتصف الشخصية الإنسانية من خلالها، فهي تصف أدبيا الوعي بطبائع البشر وما جبلوا عليه من أخلاق، لذلك أعتقد أن هذه القصيدة وثيقة تؤكد البعد الأخلاقي في الأدب إذا امتزجت بفنية مؤثرة تستمد طاقتها من الصدق في الأدب، والذي هو روح النص الأدبي وسر الفن، يقول: "إذا قمت في الناس أشفق عليهم فليسوا – كما تلتقيهم – سواء فمنهم كسول ومنهم عجول ومن يستبد به الكبرياء ومنهم يحاول تجميل وجه ليخفي خلف النقاب العناء فضمد جراح الذين استجاروا وخفف عليهم صنوف البلاء" أيضًا كان التوفيق في تجنب الوقوع في شراك اللغة الخطابية، بمعنى أن القصيدة امتازت بالنظرة التأملية وتقطير الحكمة بما جعلها قريبة من الأفئدة لأنها تقترن لديهم بما استقر في وعيهم من مثال كريم، رغم الواقع العاصف، بالتالي لم تكن الخطابية وسك النصائح الخاملة سمة القصيدة بل تلك النصائح الممتزجة بروح الشاعر وصدقه الفني. ألم أقل لكم أنها وصايا من الزمن الجميل، لرجل من الزمن الجميل.