الحساب التركي لم يكن له اساس علي ارض الواقع اللبناني او العربي. لم يكن الوفد التركي في بيروت يصدق انه يتعرض لمثل هذه الحملات القاسية هي نكسة دبلوماسية جديدة لتركيا التي تسير في الرمال المتحركة العربية بحذر شديد، وبالاستناد الي فرضية بأن العرب اصبحوا مختلفين عما كانوا عليه في القرن الماضي او القرن الذي سبقه، وما عادوا يقاتلون بعضهم البعض اكثر مما يقاتلون الأجنبي او يدركون خطره ويشعرون بتهديده. الخيبة التركية الأخيرة في لبنان كانت هذه المرة اكبر من الخيبات السابقة في العراق وفلسطين وسواهما. لكن انقره لن تيأس ولن تنكفئ. عندما قرر رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إيفاد وزير خارجيته احمد داود اوغلو الي بيروت، مع رئيس الوزراء القطري الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني، كان يعرف انها ستكون مهمة مستحيلة، وأن الارض اللبنانية رخوة جداً ومليئة بالحفر والخنادق. لكنه كان يظن ان اللبنانيين هم علي علم تام بأنهم امام لحظة حرجة جداً وينتظرون اليد التي ستمتد اليهم لتساعدهم علي الخروج من الحفرة العميقة.. وكان يعتقد أن أنقره صارت مرجعاً وملتقي، وملاذاً أخيراً يسلم به العرب جميعاً، ويفسح له المجال لكي يعينهم علي تدبير شؤونهم الداخلية العصية علي التدبير. لكن الحساب التركي لم يكن له اساس علي ارض الواقع اللبناني او العربي. لم يكن الوفد التركي في بيروت يصدق انه يتعرض لمثل هذه الحملات القاسية من سوريا وإيران، عبر حزب الله، ومن السعودية عبر وزير خارجيتها الامير سعود الفيصل الذي قال كلاماً لا يليق لا بالدبلوماسية السعودية ولا بأي دبلوماسية، ولا يهدف إلا الي الإساءة لتركيا ودورها الذي لا يمكن ان يكون متعارضاً مع الدور السعودي. اما الموقف الذي اعلنه وزير الخارجية المصرية احمد ابو الغيط عن ضرورة بقاء الازمة اللبنانية في الإطار العربي، ولولا الموقف الجنوني الذي اطلقه الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد وهدد فيه بقطع الأيدي الشيطانية التي تتدخل في لبنان، لكان يجوز الاستنتاج ان من اهم خلاصات التجربة التركية الاخيرة في لبنان هي انها شهدت اول اشتباك عربي تركي مباشر، يعقب المناوشات التي دارت علي اكثر من جبهة، لا سيما بعد ان خاض اردوغان معركة دافوس الشهيرة قبل عامين، وتحول الي زعيم شعبي محبوب من غالبية الرأي العام العربي، الذي ضاق ذرعاً بحكامه، وبعد ان خاضت تركيا كلها موقعة سفينة مرمرة وتحولت الي طليعة جبهة المقاومة للمشروع الإسرائيلي. خلاصة القول هي أن هناك خللاً عميقاً في العلاقات العربية التركية كشفته معضلة لبنان، التي كانت كما يبدو فرصة للسعودية ومصر لكي تبلغا انقرة انه لا يمكنها ان تسحب البساط من تحتهما وأن تحاول توفير مخرج لخصومهما، كما كانت مناسبة لدمشق وطهران ايضا كي تسجلا تحفظاتهما علي مجمل الدور التركي لا سيما في فنائهما الخلفي اللبناني الذي لا يحتمل القسمة او المشاركة، خصوصاً اذا كانتا تشتبهان بأن تركيا تميل في النهاية ضمناً الي القاهرة والرياض وخياراتهما اللبنانية المعروفة. لم تكن تركيا في الوسط، لكنها تلقت الضربات من الجهات الاربع.. لكي ترفع يدها عن لبنان.