ينظر العالم إلي الصين علي أنها قوة اقتصادية ماحقة، ذلك أنها تنمو بمعدل سنوي مذهل هو 10 في المائة في وقت تجاهد فيه بقية دول العالم للخروج من الركود، ومدنها باتت تعج بالسيارات الجديدة والبنايات الحديثة ومتاجر الماركات العالمية مثل برادا وجوتشي وكارتييه - الأشياء الحقيقية، وليس النسخ المقلدة. كما أنها تمكنت للتو من تجاوز اليابان لتصبح ثاني أكبر اقتصاد عالمي. بل إن الصين تعرض حالياً بناء خط للقطارات عالية السرعة في ولاية كاليفورنيا الأمريكية. ومعلوم أن أول خط للسكك الحديدية طويل المدي في الولاية، عام 1869، أنشئ بواسطة رؤوس أموال أمريكية وأيد عاملة صينية، أما هذه المرة فيمكن أن يتم ذلك بواسطة رأسمال صيني وعمالة أمريكية! باختصار، يمكن القول إن الصين تسير نحو القمة في وقت ما زلنا نترنح فيه علي ما يبدو. وهكذا، فإن زائراً أمريكياً إلي بكين، وهي المدينة التي زرتُها الأسبوع الماضي، سرعان ما ينتابه شعور مزعج وغير معتاد بالدونية، علي الأقل فيما يتعلق بالاستراتيجية الاقتصادية. ولكن استمع إلي الصينيين يصفون العالم كما يرونه، وسوف تحصل علي صورة مختلفة تماماً: فقد بدؤوا يشعرون بالخوف. صحيح أن الاقتصاد الصيني ينمو بمعدل 10 في المائة سنوياً، ولكن المسئولين والاقتصاديين الصينيين بدأوا يخشون أن يعيشوا مثلا اقتصادياً أمريكياً قديماً: إذا كان ثمة شيء لا يمكن أن يستمر إلي الأبد، فإنه سيتوقف. لدي القيادة الصينية صفقة ضمنية مؤداها: دعونا نواصل، وسنخلق وظائف جيدة ونرفع مداخيل العمال ونقلّص الفقر في الأرياف. ولكن في بلد يبلغ عدد سكانه 1.3 مليار نسمة ويضم تباينات قوية بين الفقر والغني، فإن المهمة أصعب مما تبدو عليه؛ حيث يري الخبير الاقتصادي "فان جانج" أنه من أجل الحفاظ علي توسعه مستمراً، يحتاج الاقتصاد الصيني لمواصلة النمو ب8 في المائة علي الأقل خلال المستقبل المنظور. ومن أجل تحقيق هدفها بعيد المدي والمتمثل في أن تصبح بلداً يتمتع بالرخاء ومن دون طبقة فلاحين فقراء، يقول "جانج"، يجب علي الصين أن تخلق ما لا يقل عن 150 مليون وظيفة خلال الأعوام العشرين المقبلة تقريباً. ومن دون كل تلك الوظائف، يتابع "فان"، "إننا يمكن أن نواجه أزمات اجتماعية". فالمسئولون الصينيون لا يتحدثون عن انتفاضة 1989 التي أدت إلي أحداث ساحة "تيانانمان"؛ ولكنهم يتذكرون، أنها لم تكن فقط بسبب توق جيل جديد إلي الديمقراطية، وإنما أيضاً بسبب تراجع اقتصادي أغضب الطلبة والعمال بسبب تقلص سوق العمل. وقد عاش النظام الداخلي الصيني عدداً من الاحتجاجات والإضرابات والاعتصامات كان معظمها بسبب الغضب من ظروف العمل السيئة أو مصادرة الأراضي. وقد كانت وزارة الأمن العام تُصدر تقريراً سنوياً عما تسميها "حوادث جماعية"، ولكن بعد أن ارتفاع عددها، توقفت تلك التقارير عن الصدور، وباتت الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، وهي مركز بحوث حكومي، تكتفي اليوم بالقول إن الحوادث تقع "بشكل متكرر" ومن المرجح أن تستمر في الارتفاع. وحسب الحكومة وخبرائها الاقتصاديين، فإن السبيل للخروج من هذه المشاكل هو أن تنمو الصين وتتحول من اقتصاد تصديري ذي أجور منخفضة واستهلاك منخفض إلي اقتصاد متوسط الدخل ومتوسط الاستهلاك - اقتصاد يصدِّر الألواح الشمسية وأنظمة القطارات عالية السرعة، والأجهزة والمعدات لمتاجر "وول مارت". والحال أن الاقتصاد اليوم مازال مهيكلاً علي نحو حيث يتم صرف الدخل الوطني في الغالب في استثمارات البني التحتية، وليس الاستهلاك. كما أن العائلات الصينية، وبدلًا من أن تستهلك مثل الأمريكيين، مازالت لديها حصة مذهلة من دخلها (نحو 50 في المائة، حسب بعض التقديرات)، ومرد ذلك جزئياً إلي نظامي المعاشات والرعاية الصحية اللذين يعتبران أضعف من أن يعتمد عليهما حتي من يملكون إمكانات متوسطة. ولكن ورغم أن العديد من الاقتصاديين الصينيين يتفقون مبدئياً علي أن وزير الخزينة الأمريكي "تيموثي جيثنر" محق عندما اعتبر أن علي عملتهم الوطنية، "اليوان"، أن ترتفع ببطء فوق المعدل المنخفض بشكل متعمد بهدف دعم الصادرات مقابل الدولار. ولعل هذا ما يفسر لماذا لم يكن ثمة شعور بالشماتة من قبل الصين بعد أن تجاوز ناتجها المحلي الإجمالي نظيره لدي المنافس القديم، اليابان، ذلك أن الصينيين مازالوا يريدون جني أرباح معاملة العالم لهم كبلد نام وفقير، وليس كمنافس عالمي ناجح إذ يقولون: إننا لم نصبح أغنياء بعد، ويشيرون إلي أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، الذي يقدر بنحو 4 آلاف دولار حسب صندوق النقد الدولي، يناهز 1/12 من نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الولاياتالمتحدة (48 ألف دولار) ويضعهم في المرتبة 97 مباشرة قبل ألبانيا. ويشدد "دونج مانيان"، المتخصص في العلوم السياسية ب"المعهد الصيني للدراسات الدولية"، علي أن "الصين ليست بلداً متقدماً"، مضيفاً أنه "حتي بعد 20 أو 30 عاماً، ستكون الصين في مرحلتها الابتدائية من التطور". غير أنه يصعب تصديق ذلك عندما تشمل "المرحلة الابتدائية" للصين ليس الصناعات الأساسية فحسب، وإنما 56 منطقة صناعية عالية التكنولوجيا للتنافس في مجالات من البيوتكنولوجيا إلي خدمات البرامج الحاسوبية. وبالطبع، فإن شكوي الصين وسيلة للتصدي للضغط الخارجي من أجل إعادة تقييم اليوان، وإنهاء الدعم للقطاعات التصديرية. غير أن بعضه هو التركة الطبيعية لبلد كان حتي عهد قريب يعاني فقراً مدقعاً، ومازال يعتبر نفسه "قادماً متأخراً" يكافح في المنافسة الدولية علي الموارد الطبيعية والتكنولوجيا والثروة. قد نفكر في الصين كقوة اقتصادية كبيرة، ولكن الصينيين لا يفعلون ذلك؛ حيث يقول فان جانج: "إن الصين تشعر بالقلق". فالصينيون يعرفون أن اقتصادهم غير متوازن، وأنهم يجرون مع الزخم، وإذا ما تباطأ ذلك الزخم، فإنهم سيواجهون مشكلة حقيقية ربما. غير أنه عندما يتبني الصينيون مواقف قوية من معدلات الصرف أو التجارة أو غيرهما، فإنهم لا يقومون سوي بالدفاع عن مصلحتهم الذاتية كما يرونها. فهم رأسماليون يبحثون عن الربح في ثقافة تتوقع مفاوضات ومساومات صعبة. ومثلنا تماما، فإنهم يخافون المستقبل، ولكن بطريقتهم الخاصة. دويل ماكمانوس محلل سياسي أمريكي