تعودت أن أكتب عن مؤتمر ميونخ للأمن بعد كل مرة ينعقد فيها في تلك المدينة الألمانية الشهيرة. إنه "سوق عكاظ" الأمن حيث تعود الخبراء الأمنيون القادمون من معظم أنحاء العالم علي المشاركة فيه والجلوس معا لمناقشة ما يستجد من موضوعات، ويتطلعون إلي المستقبل وما سوف يأتي به من مفاجآت وتحديات. لم يعد الأمن في منطقة معينة من العالم مهما بعدت منفصلا عن باقي أنحاء العالم الذي أصبح الآن كالجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تداعي له باقي الجسد بالسهر والحمي. كثير من الناس ينظرون إلي هذه المؤتمرات علي أنها مجرد مجال للحديث الفارغ والدردشة والعلاقات العامة وليس وراءها شيئ مفيد ولكن ذلك ليس بالصحيح. فمنذ "سوق عكاظ" وربما قبله بكثير اكتشف الناس أهمية الاجتماع والاستماع إلي الآخر والتعرف عليه، فكثير من الحروب اشتعلت بسبب الفهم الخاطئ والتفسيرات المقصورة والبعيدة أحيانا عن الحقيقة، كما أن مصطلح العلاقات العامة ليس عنوانا لتضييع الوقت بل هو دعوة إلي توسيع العلاقات بكل صورها علي المستويين الفردي والجماعي، وبدونها من الصعب وضع السياسات الرشيدة القائمة علي معلومات حقيقية أوسع في مجالها من مجرد ما هو مكتوب في الورق إلي ما هو مرأي علي وجوه الآخرين. مؤتمر ميونخ هذا العام هو المؤتمر رقم 46، وعادة ما تكون هذه المؤتمرات استمرارا لمؤتمرات السابقة فكثير من الموضوعات التي تشغل الجماعة الأمنية تستمر لسنوات قبل أن تختفي ويأتي مكانها موضوعات أخري. وهناك سنوات وجد المؤتمر أنه في مواجهة موضوع طارئ لم يكن متوقعا من قبل كما حدث في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001 حيث اختفت الموضوعات القديمة وجاء مكانها موضوعات أخري مختلفة تماما. وحقيقة الأمر أننا مازلنا نعيش حتي الآن في "زمن 11 سبتمبر" بكل نتائجه تداعياته إلي أن يأتي مكانه حدث أمني آخر ينقل العالم أو يحوله من حقبة تاريخية إلي أخري قادمة. والغريب أن هذه المؤتمرات برغم أنها مفيدة في فهم الحاضر والتعامل معه إلا أنها عادة ما تفشل في التنبؤ بلحظات التحول الكبري إلا فيما ندر. وبطبيعة الحال لن تكون هناك "مفاجأة" إذا كان ممكنا التنبؤ بها قبل أن تحدث. موضوعات مؤتمر ميونخ لهذا العام اشتملت علي عملية السلام في الشرق الأوسط، والحرب في أفغانستان وعدم الاستقرار في تلك المنطقة من وسط آسيا، وتأثيره علي باكستان والهند والصين. وكذلك ما يحدث علي امتداد القارة الأوروبية من تطور، وتطلع الاتحاد الأوروبي إلي دور عالمي أوسع في معظم الجبهات الساخنة في إفريقيا وآسيا. وفي مركز الاهتمام كانت إيران حاضرة وبرنامجها النووي في المؤتمر واحتمالات تطور الأحداث في اتجاه صدام مسلح بين إيران من جهة وأمريكا وإسرائيل من جهة أخري، خاصة أن وزير خارجية إيران قد فاجأ المؤتمر بالحضور. ومع الاهتمام بالملف الإيراني كان هناك اهتمام مواز بالملف النووي العالمي بشكل عام والتيار السائد في نحو عالم خال من هذه الأسلحة المدمرة أو خفض أعدادها بصورة ملموسة علي مدي زمني مناسب. كما كان في المؤتمر حضور روسي يسعي إلي دعم مبادرته لإقامة إطار جديد للأمن الأوروبي يستجيب للمتغيرات الجيوبوليتيكية المتراكمة منذ انتهاء الحرب الباردة. كذلك مناقشة الاستراتيجية الجديدة لحلف الناتو ودوره في مرحلة أصبح فيها الناتو "عالميا" أكثر من كونه مجرد تحالف عبر الأطلنطي بين الولاياتالمتحدة وأوروبا. صاحب الحضور الإيراني في المؤتمر مناوشات إيرانية دبلوماسية لإعطاء الانطباع أنها في سبيلها إلي التعامل بجدية مع العرض الأمريكي لتخصيب اليورانيوم خارج إيران ووقف تخصيبه في الداخل، لكن هذا التفاؤل سرعان ما خبا بسبب وضع إيران لشروط كثيرة علي هذه العملية، كما لم تتخل إيران كلية عن استمرارها تخصيب اليورانيوم في الداخل. الأمريكيون والأوربيون الحاضرون في المؤتمر أبدوا امتعاضهم للمناورات الإيرانية، كما انتقدت روسيا المماطلة الإيرانية، أما الصين فبرغم دعوتها لإيران إلي دور أكثر إيجابية إلا أنها لم تشجع الضغط علي إيران أو تطبيق العقوبات عليها. وصرح جيمس جون مستشار الأمن القومي الأمريكي قائلا إنه برغم انتهاء المهلة الأمريكيةلإيران لوقف أنشطة تخصيب اليورانيوم في الداخل إلا أنها مازالت مدعوة للتعامل بإيجابية مع المبادرات الغربية المطروحة، وفي نفس الوقت الضغط علي إيران بتطبيق عقوبات جديدة عليها. وعلي سبيل التغيير، وأيضا من أجل إعطاء الانطباع أن العالم يتغير علي مستوي قيادته، قام المؤتمر بدعوة وزير خارجية الصين يانج جيشي لإلقاء الكلمة الانفتاحية للمؤتمر. أشار الوزير الصيني في البداية إلي أن الصين قد تحولت من دولة في غربة عن العالم إلي دولة متفاعلة معه، لكنها مازالت تواجه تحديات داخلية كثيرة بسبب التنمية غير المتوازنة في الداخل، كما طالب الوزير الصيني العالم خفض توقعاته بالنسبة للدور الصيني فيما يتعلق بالحفاظ علي البيئة، وخفض الانبعاثات الضارة بالبيئة، واالتعامل مع لكوارث الإنسانية، والمشاركة في قوات حفظ السلام علي مستوي العالم. وأشار إلي أن الصين سوف تبقي دولة نامية لعقود قادمة. وليس معني ذلك أنها سوف تأخذ موقفا سلبيا من العالم لكنها سوف تساهم في حدود قدراتها كما حدث بالنسبة للأزمة المالية العالمية، وكارثة هاييتي الإنسانية، وأيضا من خلال مشاركتها في قوات حفظ السلام في إفريقيا. وركز الوزير الصيني علي أربع نقاط أمنية سوف تحظي بالاهتمام الصيني في المستقبل: - الأولي حول كوريا الشمالية وقدراتها النووية وأثرها علي الأمن والاستقرار في شمال شرق آسيا؛ - والثانية ما يجري في أفغانستان، واستعداد الصين المشاركة في أعباء إعادة البناء وتحقيق النمو والاستقرار؛ - وثالثا الأزمة الإيرانية، ودعوة الصين الصبر علي إيران ودعوتها إلي جدية التعاون مع الغرب؛ - ورابعا مشكلة تغير المناخ، وتحمل الصين مع الجميع للمسئولية مع اختلاف الأعباء طبقا لحالة كل دولة. وبالإضافة إلي ما سبق اهتم المؤتمر ربما لأول مرة وبهذا المستوي من التركيز علي هدف إخلاء العالم من الأسلحة، النووية حيث ناقش كل المبادرات المطروحة وأهمها مبادرة "الزيرو النووي العالمي" Global Zero ويقف وراؤها هنري كسنجر وجورج شولتز وكلاوز نومان وزبيجينو برزنيسكي وهيلموت شميت وغيرهم في ظل دعم كبير من الرئيس الأمريكي أوباما والرئيس الروسي دميتري ميدفيديف.