تبدأ أحداث الفيلم في أعقاب كارثة كونية تحيل الأرض إلي غابة جرداء ،وصحراء قاحلة ،تتبعثر فيهما الجثث التي تنهشها الحيوانات الضالة،وتحوم حولها الحشرات،وهو ما يوحي بأن الأرض تعرضت لقوة تدمير هائلة لكن السيناريو لا يحدد توقيت حدوث الكارثة،ويكتفي بالإشارة،فقط، إلي مرور ثلاثين عاماً علي الرحلة التي بدأها البطل "إيلاي" دانزيل واشنطن بعد عام من اختبائه ،ويبرر ما حدث بجملة عابرة علي لسان البطل "كان الناس يملكون أكثر مما يحتاجون ،ولا يعرفون الغث من السمين" . وتتجلي المفاجأة الأولي للفيلم عندما يظهر البطل وهو ملتحفاً بالكوفية الفلسطينية،ويبدو مؤيداً بقوة روحانية متمثلة في الكتاب المقدس الذي يحمله ويحرص علي ألا تمسسه يد بشر،وقوة مادية في صورة المحارب الذي يقاتل الأشرار ،ويقضي عليهم،وهي نفس مواصفات "المخلص المنتظر" الذي تحدثت عنه النصوص التوراتية ،ومن بينها سفر أشعياء (أحد أنبياء بني إسرائيل ولد قبل ميلاد المسيح بحوالي ثمانمائة عام ) في الإصحاح 59 _ 63 ،حين يتحدث عن ظهور شمس أخري، وبزوغ فجر جديد لإعلاء الحق في الأرض، بينما تؤكد الأناجيل أن الله سيجعل أعداءه موطئا لقدميه،وهي المواصفات التي تنطبق بحذافيرها علي بطلنا،الذي يقدم الفيلم إشارة أخري مهمة وموحية عندما يؤكد أنه جاء من "الشرق"،وأن صوتاً انبعث من داخله أوحي إليه وقاده إلي مكان مجهول عثر فيه علي "الكتاب المقدس" وطالبه بأن ينقله إلي "الغرب"،واعداً إياه أي "الصوت" بأن الطريق سيفتح أمامه،وأنه سينعم بالحماية،وهي الجزئية التي تبرر البطولات الخارقة التي حققها دانزيل واشنطن في الفيلم،وربما أثارت دهشة الجمهور،حيث بدا وكأنه "البطل الخارق" الذي لا تقف أمامه قوة مهما كان عددها وعتادها . وطوال الفيلم لا تتوقف المفاجآت التي يدخرها السيناريو؛فالبطل يتخطي في سبيل الوصول إلي غايته العقبة تلو الأخري،سواء في هيئة قطاع طرق وأشرار أو آكلي لحوم بشر،"حيث الزمن الذي ينبغي عليك فيه أن تقتل أو تُقتل"، ويتعالي علي كل أنواع الغواية التي يضعها في طريقه زعيم الأشرار "كارنيجي جاري أولدمان الذي يقدمه السيناريو بوصفه قارئاً نهماً لسيرة الدكتاتور "موسوليني" أحد مؤسسي الحركة الفاشية الإيطالية،فالأخير مع قطاع الطرق والأشرار وآكلي لحوم البشر رموز شر ينطبق عليهم ما أوردته النصوص التوراتية ،كما في الإصحاح 59: 7 من سفر أشعياء ،الذي يقول : "أرجلهم إلي الشر تجري وتسرع إلي سفك الدم الذكي .. أفكارهم أفكار إثم في طرقهم اغتصاب وسحق".وقال :"طريق السلام لم يعرفوه وليس في مسالكهم عدل جعلوا لأنفسهم سبلاً معوجة كل من يسير فيها لا يعرف سلاماً" (الإصحاح 59: 8 )،وهو المعني الذي نراه مُجسداً بالصوت والصورة في الفيلم المُدهش والمُثير،فالمسافرون الأبرياء تُراق دماؤهم بعد نهبهم وسحقهم بينما النساء يتعرضن للاغتصاب،ووسط كل هذه الإشارات يؤكد الفيلم علي الأهمية التي يوليها "الفاشي" للكتاب المقدس؛فإذا كان "إيلاي" مبعوثاً إلهياً في مهمة مقدسة لتوصيله إلي "الأرض التي سيأتي نورها ويشرق عليها مجد الله بينما الظلام الدامس يغطي باقي الأرض"،وقبل هذا يحقق الغاية التي أرادها هو نفسه "بالإيمان تقود العميان"،ويؤكدها النص بقوله :" وأُسير العُمي في طريق لم يعرفوها .. وفي مسالك لم يدروها أمشيهم .. اجعل الظلمة أمامهم نوراً والمعوجات مستقيمة هذه الأمور افعلها ولا اتركهم" (سفر أشعياء الإصحاح 42: 16). فالبشر الذين خلفتهم "الكارثة" في الفيلم هم بالفعل عُمي وأميون استغلهم "الفاشي كارنيجي" ليتوسع في إمبراطوريته،وسعيه المحموم لامتلاك "الكتاب المقدس" لا يعكس سوي الرغبة في البحث عن دستور ينظم أحوال إمبراطوريته الجديدة ليس أكثر،بينما يسيطر علي "إيلاي" هدفاً أسمي يتمثل في الخروج بالناس من الظلمات إلي النور؛فالسيناريو الثري بالمعاني والرسائل والمضامين يبدأ بإثارة الدهشة والحيرة والصدمة وينتهي بالاستحواذ علي الإعجاب الذي لا يخلو من انبهار،وحتي الغموض الذي اكتنف المشاهد الاستهلالية يتلاشي بالتراكم بينما يتراجع الشعور بالتغريب من خلال التفاصيل التي تتوالي بوفرة ودقة ؛ففي عالم فقد كل مقومات الحضارة ،وعلي رأسها الثقافة نتيجة إحراق الكتب وعلي رأسها الكتب السماوية،أضحت "المقايضة" لغة الاقتصاد الوحيدة،وتحولت نقطة الماء الشحيحة إلي ثروة تُزهق الأرواح في سبيلها،وبدا البطل القادم من الشرق،متسلحاً بالإيمان وبعض التفاصيل الصغيرة،كالمناديل المعطرة و"الكوفية" وجهاز الموسيقي صغير الحجم و"الولاعة"،وكأنه الوحيد "المتحضر" في عالم متخلف أعادته الكارثة سنوات طويلة إلي الوراء؛فالتفاني الذي يبدو عليه "المخَلص" في مهمته المقدسة يدعوه إلي رفض أن يكون له أتباع ،لكن هذا لا يمنع "سولارا" ميلا كونيس من اقتفاء أثره، وتتبع خطاه،بعدما آمنت به،وبأفكاره قبل قدراته ،بينما يطارده "الفاشي" وعصابته لاستعادة "الكتاب المقدس" مستخدماً الشاحنات الأمريكية ليست مصادفة بالطبع أن يستخدم سيارات من طراز "جنرال موتورز" كقوة ردع أمريكية وكأنها محاولة لاستعادة القوة الغابرة لأمريكا التي ستتعرض للتدمير في الفيلم وبُدهشك "إيلاي" باستعادته وسيلة قديمة للحرب هي"القوس والسهم"،لكن الدهشة سرعان ما تختفي إذا أدركنا أنه السلاح ذاته الذي جاء ذكره عند وصف "المخلص المنتظر" في سفر حبوق (أحد أنبياء بني إسرائيل وولد قبل ميلاد المسيح بحوالي ستمائة عام) حيث يقول :"الشمس والقمر وقفا في بروجهما لنور سهامك الطائرة، للمعان برق مجدك" وفي النسخة الإنجليزية : "للمعان برق رماحك" ( الإصحاح الثالث 3: 11) . الكفر والإلحاد يلتقيان وجهاً لوجه في السجال المحتدم بين "المُخَلص" و"الفاشي"،ليس علي صعيد النزال بالسلاح فحسب،وإنما في صورة صراع أفكار أيضاً، لكن الفيلم "الإيماني" لا يدع مجالاً لانتصار وجهة النظر الملحدة أو المرتابة في قوة وجدوي الدين ،فعلي الرغم من نجاح "كارنيجي" في الاستيلاء علي "الكتاب المقدس" ،ومغادرة ساحة المواجهة تاركاً "إيلاي" بين الحياة والموت،فإن النسخة تستغلق عليه،وعندما يتمكن من فض قفلها يفاجأ بأن النسخة مكتوبة بطريقة "بريل"،التي يستخدمها كفيفو البصر في القراءة ،وتعتمد علي حاسة اللمس،ويفشل في تحقيق مبتغاه الانتهازي،وهو المشهد الذي ألقي ظلالاً كبيرة من الشك علي أن "إيلاي" كان كفيف البصر ،وهو الشك الذي ينقلب إلي يقين في المشهد الذي ينجح فيه في الوصول إلي محطته الأخيرة (العالم الجديد)،بعدما يتحامل علي نفسه ويتكيء علي "سولارا" ،التي يرجع إليها الفضل في تعليمه "حب الآخرين أكثر مما تحب نفسك"،بعدما كان منساقاً وراء هدف واحد أعماه ،كما قال،عن غيره،ويبدأ في إملاء سفر موسي الأول سفر التكوين وباكتمال مهمته ورسالته، يموت "إيلاي" متدثراً بجلباب ناصع البياض،وعلي الفور تبدأ "المطبعة" رمز التنوير ونشر الثقافة والعلم في طبع نسخ "الكتاب المقدس"،وهو المشهد الذي قد يثير جدلاً بين الأصوليين المسلمين ،لو أنهم رأوا فيه تبشيراً بالدين المسيحي،لكنهم مطالبون ،قبل هذا الحكم المتسرع والمتعسف،بالعودة إلي اللقطة التي استعرضت فيها الكاميرا أرفف المكتبة الجديدة ويد تقتحم "الكادر" لتضع "الكتاب المقدس" ؛ففي هذه اللحظة كان من اليسير علي أي مشاهد للفيلم أن يلاحظ وجود نسختين من القرآن الكريم إحداهما بالعربية موضوعة علي الكتب،بينما تتلاصق النسخة الأخري التي كانت بالإنجليزية مع (التلمود)،ويكتمل العقد الثمين بالدرة الثالثة ممثلة في "الانجيل"،وهو ما يؤكد أن الفيلم ساوي بين كل الأديان السماوية ،بدون انحياز أو تعصب لدين ضد آخر،بل أن دعوته قامت علي أن صلاح العالم ،وعودة الحضارة،والتخلص من التخلف والقوي الشريرة، لا يتحقق بالعودة إلي الله فحسب ، وإنما في الإيمان بضرورة اقتراب الكتب السماوية الثلاثة من بعضها البعض،ووجودها جنباً إلي جنب ،كالبنيان المرصوص،وهي الرسالة التي يتوجه بها الفيلم لأتباع هذه الديانات الثلاثة أيضاً،ممن ينبغي عليهم أن يدركوا أنها جميعاً كتب سماوية مُنزلة تتبني مباديء روحانية نبيلة ،وتدعو إلي نشر قيم سامية،ومن ثم فهي مكملة لبعضها ، وليست محل تنافر أو تناقض أو محل مقارنة لتفضيل دين منها علي حساب الآخر . منذ الوهلة الأولي في فيلم "كتاب إيلاي" يحلق بك مخرجاه الأخوان هيوز (ألبرت وألن ) ،في عالمهما الخاص من خلال اختيارهما المتعمد لتلوين الصورة بشكل يحتفظ لعالمهما بهذه الخصوصية ،فاللون ليس بالأبيض والأسود،ولا علاقة له كذلك بالألوان،بل هو لون شديد الخصوصية يعبر عن رؤية متفردة توصل إليها المخرجان مع قسم التلوين الديجيتال في شركة "وارنر بروس"،ومنحت الفيلم تفرداً أسهم إلي حد كبير في إقناع المشاهد بأنه يعيش أحداثاً لا علاقة لها بالماضي،ولا تنتمي إلي المستقبل كما اعتدناه في أفلام الخيال العلمي،بل هي أحداث تقودنا إلي عالم غريب وغرائبي بدرجة ترقي إلي حد الكابوس ،لكن التفرد لا يقف عند حد "التلوين" فقط ،بل يعبر عن نفسه بقوة من خلال الجرأة التي اتسمت بها رؤية كاتب السيناريو (جاري ويتا ) والأخوين"هويز" في اختيار شخص أسود البشرة ليجسد دور "المُخَلص المنتظر"،وهو تصور فيه من الجرأة ما يفوق أي توقع أو خيال ، وتكتمل معزوفة التفرد بالموسيقي أتيكوس روس وكلاوديا سيرن التي اختلفت وتباينت لكنها عكست في كل الأحوال أجواء البدائية التي سادت الأحداث ،واستقت نفسها من البيئة بدرجة تتصور معها وكأنها اعتمدت علي ألآت موسيقية مصنعة من الطبيعة ،بينما يلعب فن "الجرافيك" دوراً كبيراً في إضفاء مصداقية علي رؤية الفيلم ، خصوصاً في تكثيف حجم الدمار الذي ظهر علي الشاشة ،من جسور وكباري وبنايات ،والذي بلغ الذروة في النقلة من أمريكا المنهارة والمنكسة في خلفية مشهد اقتراب "إيلاي" و"سولارا" من الأرض الجديدة التي تكتظ بالبنايات الحديثة،وتكتمل مفاجآت الفيلم باكتشافنا أن العالم الجديد الذي يحتل قمة الجبل ،ويقدم للبشرية الدين (الكتب السماوية) والثقافة (المطبعة )،قد بُني علي الصخرة العالية التي تتوسط خليج سان فرانسيسكو ،أي علي أطلال سجن "الكاتزار" الشهير.. وياله من مغزي !