خمسة وعشرون دولة من بين خمسة وثلاثين يمثلون "مجلس المٌحافظين" في الوكالة الدولية للطاقة الذرية صدقوا علي قرار يدعو إيران إلي تعليق البناء في مُنشأة قم النووية مع التعبير عن قلقهم من أن يكون مَسعي إيران الحقيقي تطوير أسلحة نووية وليس العمل فقط في مجال التطبيقات السلمية. روسيا كانت من بين من صوت ضد إيران برغم أنها من الداعمين لنشاطها النووي وبناء مُفاعلها في بوشهر. رُوسيا أيضا من بين الدول الست التي تتفاوض مع إيران لوقف أنشطة تخصيب اليورانيوم داخلها وهم بجانب روسياالولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا والصين. في المقابل أعلنت إيران نيتها بناء عشر وحدات جديدة لتخصيب اليورانيوم في المستقبل بقرار من مجلس وزرائها، كما انتقدت الموقف الروسي واعتبرت أن روسيا قد تم خداعها من الآخرين وأنها لم تتبع المنطق السليم للوصول إلي هذا القرار المتسرع من وجهة نظر إيران. مثل هذا الموقف الخطير الذي اشتعل في نهاية شهر نوفمبر 2009 بعد الكشف عن موقع التخصيب الجديد يوضح بجلاء المدي الذي وصل إليه الصراع بين إيران والمجتمع الدولي مُمثلا في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وجوهره في الأساس تدهور الثقة في المعلومات التي تأتي من طهران عن طبيعة برنامجها النووي، وهو جزء مُهم من مشوار طويل بدأ من عام 2003 عندما تصاعدت الشكوك لأول مرة حول إيران وبرنامجها النووي. ربما من المُهم أن نشير هنا ونحن نستعرض حالة إيران وأزمتها الأخيرة بعد الإعلان عن وحدة التخصيب الجديدة أنه في المجال النووي بالذات، وفي أسلوب التعامل الأمثل مع الوكالة والعالم بشكل عام، ليس كافيا إطلاقا أن تكون الدولة "فاضلة" ومُلتزمة بالقواعد في إطارها القانوني، بل عليها أن تُثبت بكل الطرق أنها فعلا "فاضلة"، وهذا ما لا تفعله إيران بل تفعل عكسه تماما. كذلك سجل الدولة في هذا المجال وطبيعة علاقاتها الدولية والإقليمية له نصيب كبير في بناء مصداقيتها مع الجميع. المُشكلة أن إيران تنظر إلي الموضوع من جانبه القانوني فقط، ومدي تماشيه مع بنود معاهدة منع الانتشار من خلال تفسيرها الخاص لهذه المعاهدة، وهي لا تُعطي في نفس الوقت اهتماما جديا لجوانب بناء الثقة مع الآخرين. ومن المعروف أن تطبيق القانون في أي مجال لا يتم بعيدا عن تاريخ الأطراف المعنية بالقضية، وأن سجل الأطراف السابق له اعتبار كبير عند الوصول للحكم النهائي. صحيح أن مُعاهدة منع الانتشار تُتيح للدول المُوقعة عليها العمل في مجال التطبيقات النووية بما في ذلك تخصيب اليوارنيوم تحت إشراف الوكالة، إلا أن حدوث أي تجاوز مهما كانت بساطته يمكن أن يؤدي إلي تحويل ملف الدولة إلي مجلس الأمن، وهناك يمكن اعتبار هذا التجاوز البسيط مُهددا للسلام والأمن العالمي طبقا للظروف وطبيعة سجلها السابق، ويقرر المجلس إعطاءها فرصة أو التعامل معها بالحصار أو الحرب. وهناك جانب آخر مُهم لا يمكن إغفاله ويتصل بطبيعة الموضوع النووي نفسه ومستوي خطورته وأنه قد يمس أطرافا تنظر إليه بوصفه مسألة حياة أو موت، وأنه قد يكون سببا مُقنعا لدولة ما شن حرب وقائية ضد دولة أخري قبل أن تصل الأخيرة إلي مرحلة امتلاك القنبلة النووية عندها لن يكون للقانون أو مجلس الأمن دور فعال في حل المشكلة إلا بتكلفة باهظة. المُشكلة إذن تكمن في أن إيران قد فاجأت العالم والوكالة الدولية للطاقة الذرية بأنها تُقيم مُنشأة جديدة لتخصيب اليورانيوم _ منذ سنة 2007- في منطقة فوردو الجبلية شمال مدينة قم ذات القيمة الدينية العالية في نفس التوقيت الذي تطلب فيه الوكالة وعدد كبير من دول العالم من إيران وقف التخصيب تماما لأن سجلها السابق في هذا الموضوع ليس مُشجعا، ولأن مجلس المحافظين في الوكالة قد رفع حالتها من قبل إلي مجلس الأمن لهذا السبب. لقد أعلنت إيران عن مُنشأة فوردو لتخصيب اليورانيوم في 25 سبتمبر 2009 في نفس توقيت اجتماع مجموعة العشرين G-20 في مدينة بطرسبورج بروسيا الأمر الذي عزز فكرة أن إيران تمتلك برنامجا عسكريا سريا وهو ما عبر عنه الرئيس أوباما وساركوزي وجوردون براون بمجرد انتشار الخبر بأن ظهور مثل هذه المُنشأة الجديدة فجأة لا يتفق مع ادعاء طهران بأن برنامجها النووي سلمي تماما. ومما زاد الطين بلة إصرار إيران علي حقن الأزمة بمزيد من الشكوك بإعلان مجلس وزرائها مُؤخرا العزم علي بناء عشر وحدات أخري للتخصيب في المستقبل، مع حرصها علي التأكيد بأن ذلك كله يتفق مع نصوص معاهدة منع الانتشار، وأن تخصيبها لليورانيوم لا يتعارض مع بنود المعاهدة. بعد التعرف علي المكان وزيارة خُبراء الوكالة له تبدو المُنشأة صغيرة ومحدودة ولا تصلح- في الوقت الحالي علي الأقل- لتخصيب اليورانيوم علي المستوي التجاري لأغراض المفاعلات النووية، وبالتالي يثير ذلك مخاوف في أن هذه المنشأة صالحة فقط لإنتاج كميات صغيرة من اليورانيوم المُخصب للاستخدامات العسكرية. بعض المُحللين يرون أن حجم المكان الحالي لا يصلح أيضا للتطبيقات العسكرية، وأن الوصول إلي مستويات التخصيب العالية المطلوبة للرؤوس النووية قد يأخذ سنوات إلا إذا استخدمت إيران أجهزة تخصيب حديثة ومُطورة غير معروف حتي الآن امتلاك إيران لها. الافتراض الثاني أن منشأة فوردو قد تكون واحدة من منشآت كثيرة تم إنشاؤها في الخفاء ولم يتم كشفها أو الإعلان عنها حتي الآن. ومع ذلك حرصت إيران علي طمأنة الوكالة من خلال إعلانها مؤخرا أنها لا تمتلك مُنشآت أخري مماثلة أو تحت الإنشاء، ولاشك أن ظهور أماكن أخري تعمل في مجال التخصيب سوف يثير مصاعب كثيرة جدا بالنسبة لإيران في المستقبل. وبرغم كل هذه الضوضاء حول إيران يري بعض المُتخصصين - وليس الصحفيين - أن إيران تُبالغ فيما تمتلكه من قدرات، وأنها نتيجة للحصار تستخدم تكنولوجيا مُتخلفة، وأنها تُنفق كثيرا علي أشياء ومواد تحصل عليها من السوق السوداء بملايين الدولارات لتحقيق قدرات تكنولوجية مُتواضعة. وطبقا لتقارير الوكالة لا تستخدم إيران إلا 20-50% من أجهزة التخصيب الموجودة لديها. ولاشك أن الأحوال السياسية الداخلية في إيران قد حدث فيها تغيرات مُهمة خلال الشهور الأخيرة تعكس كثيرا من القلق وانعدام الثقة خاصة مع انتشار البطالة وارتفاع الأسعار وأزمة الوقود بالإضافة إلي تدهور الثقة في الجماعة الدينية الحاكمة، وكل هذه العوامل تستدعي تجارب مماثلة حدثت في الشرق الأوسط - كتجربة العراق في عهد صدام حسين - حيث يضخم الغرب وإسرائيل في قدرات الدولة في البداية لتبرير الهجوم العسكري عليها في النهاية، ويدعم ذلك ما تقوله الدولة عن نفسها وعن قدراتها غير الحقيقة، إلي أن ينتهي الأمر بعمل عسكري مضاد مُكتمل الجوانب سياسيا وعسكريا. إيران والدول المُواجهة لها قد وصلوا جميعا إلي قرب نهاية المباراة. إيران أمامها فرصة المُصالحة مع الغرب والولاياتالمتحدة علي وجه الخصوص إذا هي غيرت من طبيعة الحكم في طهران أو عدلت من توجهاته خاصة في ضوء المُواجهة العسكرية الحالية بين الولاياتالمتحدة (وحلف الناتو ..يعني الغرب كله) من ناحية، وطالبان من ناحية أخري. وإيران في كل الأحوال، وبرغم عداءها ضد طالبان، تميل ضد أمريكا والغرب وإسرائيل، لأنها بَنت شرعيتها الرسمية والشعبية علي العداء مع الغرب. هل الإرهاصات التي حدثت مع أزمة الانتخابات في طهران سوف تستأنف مشوارها ويحدث في إيران تغيير داخلي ملموس يمكن أن يؤجل المواجهة بسبب موقفها النووي إلي أجل لاحق يتيح حلا سلميا للأزمة في وجود حكومة إيرانية تؤمن بالتغيير في إطار المنظومة الدينية الحالية أو خارجها؟ ويراهن كثير من الإيرانيين المعتدلين علي أن التغيير في إيران من الداخل سوف يحدث في فترة لن تتعدي ثلاث أو أربع سنوات. السيناريو الثاني: أن تقبل المجموعة الحاكمة الحالية في طهران بحل وسط في الموضوع النووي تضمن علي الأكثر من خلاله حق التخصيب في الخارج، وإنهاء الحصار الاقتصادي والفني بدرجات متفاوتة، وطبقا لمساحة الحل الذي سوف تقبله في ظل رقابة دولية، وقبول من الولاياتالمتحدة وإسرائيل، وانفتاح في الشرق الأوسط علي أكثر من جبهة تُعيد البناء الإقليمي في الشرق الأوسط، وتدعم فيه السلام، وتقيد سباق التسلح علي مستوياته المُختلفة. أما السيناريو الثالث وهو استخدام العمل العسكري ضد إيران وتدمير منشآتها النووية بكل النتائج الخطيرة لهذا الخيار. وهناك من يري أن نتائجه لن تكون كارثية في ظل الأوضاع الداخلية في إيران، وكذلك في إطار سياسة "طول البال" الذي يتبناها أوباما والتي سوف تنتهي بنعومة إلي حل المُشكلة سياسيا وسلميا وفي ظل ابتسامة علي وجوه الجميع، أو بخشونة من خلال الحل العسكري بكل تكلفته المعروفة، ولقد بدأها أوباما بدعم الحرب في أفغانستان بدون برنامج زمني محدد، وبدعم من الناتو والحلفاء الأوروبيين، للعمل في إطار إستراتيجية "لابُد مما ليس منه بُدْ" وهو "الحرب". دأبت النظريات السياسية المعاصرة في الغرب علي حصر دور الدولة في الإطار التنظيمي لعلاقات مؤسسات المجتمع وعلاقات الأفراد ببعضهم وعلاقاتهم ببعض، فهذه الدولة تفترض وجود طبقة وسطي قوية ومجتمع مدني فاعل ورجال أعمال وطنيين يعطون للمجتمع بالقدر الذي يعطيهم المجتمع. هذا النموذج الذي جري الترويج له خلال السنوات الماضية لا يتناسب بلاشك مع حاجة المجتمع المصري، هذا المجتمع الذي قام لقرون علي فكرة مركزية الدولة ودورها في توجيه المجتمع، وعلي دور رأس العائلة في رعاية العائلة ومصالحها، وعليه فان دور الدولة في التصور العام للمصريين يتجاوز دور الدولة التقليدي في الغرب، فالدولة هنا راعية وفاعلة، وحين تحاول الدولة التخلي عن هذا الدور وترك المجتمع بلا رعاية فإن الدولة تفقد هيبتها بل وانتماء أفراد المجتمع لها، لذا فان مصطلحات مثل بيع البلد التي تنسحب علي خصخصة القطاع العام، أو استيلاء الأجانب علي البلد الذي ينسحب علي الاستثمار الاجنبي، وغيرها من المصطلحات المنتشرة والتي تعبر عن فقدان الدولة لجزء من وظائفها التي يعتبرها المجتمع طبيعية، تعد هذه المفاهيم نتاجا لتضارب الدولة. لذا فإن وظيفة الدولة الراعية يجب تعزيزها، ومشكلة تعزيزها تنبع من عدم وجود حلول من الدولة تؤكد الدور الوطني في تشجيع أصحاب رؤوس الأموال الصغيرة والمدخرات المحدودة ليكونوا شركاء في تنمية الاقتصاد الوطني، فالحديث المستمر عن تعزيز رأس المال الاجنبي، دون حديث مماثل عن رأس المال الوطني، بل عرقلة الطبقة الوسطي عن النمو، يشكل هذا إنقاصا من وجود الدولة المحسوس، بما في ذلك عزل المجتمع عن إدارة منشآته كمرافقه مثل المستشفيات والأحياء ومراكز الشباب وقصور الثقافة، واعتبار إداراتها مقصورة علي الدولة، فدمج المجتمع في إدارة هذه المنشآت والسماح بالتبرع المباشر لها من المجتمع سيساعد كثيرا في تعزيز دور الدولة الراعية المدعمة من المجتمع، لا يعقل أن يكون مستشفي في الصعيد في حاجة للتطوير، وأهل المدينة التي بها المستشفي ممنوعون من التبرع لصالح مستشفاهم ومتابعة صرف التبرع. هنا يجب الحديث بصورة موسعة حول مفهوم الملكية العامة للمرافق خاصة ذات الحساسية مثل الكهرباء والماء التي لا يجب السماح فيها بالاستثمارات الأجنبية لأنها ستثير حساسية شديدة تجاهها وتجاه صورة الدولة لدي المجتمع، فالأفضل إنشاء شركات مساهمة تملك أسهمها البنوك الوطنية وأفراد المجتمع من الطبقة الوسطي، هناك فرصة سانحة في هذا المجال حيث يمكن تكوين شركات لإنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية والرياح طبقا للخطة القومية المتاحة. كما أن توسيع شبكة الضمان الاجتماعي والمعاشات للأسر غير المعيلة، ودعم محدودي الدخل، دور اساسي للدولة لاغني عنه في دولة مثل مصر، الدولة هي الراعية لفقراء ها، وهم الأساس لحياتهم واستمراريتها.