"راحت السكرة.. وجاءت الفكرة"، فلو كتبنا هذا المقال قبل إسدال الستار علي سيناريو "اليونسكو"، ربما ظن البعض أن صاحب المقال متآمر علي "فاروق حسني" وزير الثقافة، وهو الرجل الذي يمكن تعريفه بأنه واجهة حضارية لمصر والعرب بل إفريقيا كلها، وكنت أحد المتضامنين معه قلبا وقالبا في "موقعة الحجاب الكبري" والحرب الضروس والشرسة التي شنها ضده الإسلاميون علي مختلف توجهاتهم السياسية والاجتماعية. يشغلني دائما عنصر التوقيت قبل الإمساك بالقلم، فرب فاصل زمني ولو قصير، يحول القلم من ناقد شريف، إلي خائن أو عميل أو مأجور، وكله حسب الأوصاف التي سادت مؤخرا بعد الانفتاح الديمقراطي علي المناخ المصري برغم الآثار السلبية لهذا الانفتاح وكأن الديمقراطية والحريات في بعض جوانبها سم قاتل. دعونا من الآثار الجانبية لتعاطي الدواء الديمقراطي، ودعونا نقول: أنا علي المستوي الشخصي لا أرتاح بل ولا أقتنع من داخلي بالحالة النفسية التي تضعنا علي طول الخط، تحت نظرية المؤامرة، وليدة ظروف استعمارية من الآخر واكتملت في ظل ديكتاتوريات سحقت اعتبارات طوائف الشعب المحكوم بالحديد والنار، حتي أصبحت نظرية المؤامرة في ثقافتا تمثل الشماعة العمومية لتعليق كل الأخطاء التاريخية عليها، ومن ثم دعونا نتحاور ونتشاور حول سيناريو اليونسكو بهدوء وواقعية، فليس كل ما يتمناه المرء يدركه لأن لو قدر ل "فاروق حسني" الوزير الفنان أن يكون علي رأس منظمة اليونسكو لتحررت من عقدة التفرقة بين ثقافة الشمال وثقافة الجنوب. استعجل البعض الدخول في حلبة السباق الإعلامي بمفهوم "نظرية المؤامرة" من الآخر علي مصر التي رشحت وزيرها لرئاسة المنظمة والجدير بها بكل المقاييس، وكان من المفترض أثناء المنافسة أن يدعم الإعلام المصري بكل أدواته الإعلامية "فاروق حسني"، ولكنه جاء مخيبا للآمال وارتدي درع البطولة لإظهار وكشف نظرية المؤامرة التي يمارسها الآخر ضدنا، وكل علي قدر سعته في البطولات الإعلامية، وخدعنا أنفسنا بأنفسنا وما أكثر هذا النوع من "الخداع الذاتي" علي مر تاريخنا. ظن البعض أن شرح أبعاد نظرية المؤامرة الكونية ضد فاروق حسني القادمة من الولاياتالمتحدة حتي بوركينا فاسو هو فصيلة إعلامية لصالح الرجل، ولم يعلم هذا البعض أنه متآمر بحسن نية علي وزيره المرشح لمنظمة عالمية، تماما كما دخلنا بإرادتنا الوطنية الحرة المنافسة علي استضافة مونديال 2010 بإدارة إعلامية منتقدة للخبرة والاحتراف وبحسن نية أكثر من المطلوب فحصدنا أشهر "صفر" في التاريخ. لن أدخل في مقارنات بين الصدمات القومية، ولكن فقط أقول ولو كره البعض، إن ذنب "فاروق حسني" في رقبة الإعلام المصري لكل طوائفه، الرسمي، المعارض، المستقل علي السواء، فالرجل توقع أداء إعلاميا متميزا في مرحلة مهمة في تاريخ مصر، التي رشحته للمنصب، فاكتشف حتي لو لم يعلن عن ذلك، أن ظهره مكشوف إعلاميا أمام حائط اليونسكو، المرارة التي حصدها فاروق حسني ليست شخصية بل مرارة قومية بكل المقاييس. قد يتساءل البعض ويقول: ما دليلك علي اتهام الإعلام المصري بالتراجع المقصود أو غير المقصود في مساندة فاروق حسني في المنافسة علي رئاسة اليونسكو، والإجابة ببساطة تبدأ بمانشيت لجريدة قومية نسبته لمصادر مطلعة علي حد تعبيرها وقالت: إن تحركات المندوب الأمريكي تتناقض نصا وروحا مع تعهدات سابقة من الإدارة الأمريكية للحكومة المصرية. ثم تطوع كاتب ليبرالي كبير لشرح أبعاد هذه التحركات قائلا: وقد كان موقف مندوب الولاياتالمتحدة في اليونسكو هو الأغرب والأكثر إثارة لعلامات الاستفهام حتي الآن، فالرجل اسمه "كيليون" وقد أرسلته الإدارة الأمريكية مندوبا لها في اليونسكو قبل رمضان بأسبوع وكان ولايزال يشن حملة ضد فاروق حسني ويدعو مندوبي الدول هناك إلي عدم اختياره، وكان "كيليون" ولايزال يشن حملته دون سبب مفهوم، ودون مبرر، ودون أن يكون متسقا بأي درجة مع مواقف بلاده التي تدعو دوما إلي إرساء قيم الليبرالية بين الدول. يبدو أن شبح "بوش الثاني" مازال يسكن ديارنا، وهي نفس التصريحات التي كنا نطلقها في عهده تحت وطأة فوبيا نظرية المؤامرة التي لازمتنا علي مدي ثماني سنوات، فإذا كنا لم نتغير أو بمعني أصح ليست عندنا الرغبة في التغيير في خطابنا الإعلامي فنحن نقول لهؤلاء: متي نفهم أن المنافسة علي أي شيء في داخلها قدر مستباح من الأسلحة التنافسية فما هي أسلحتكم، هل هي شماعة نظرية المؤامرة التي علقنا عليها أخطاءنا التاريخية منذ 1967 مرورا بأشهر "صفر" في التاريخ الرياضي وأخيرا اليونسكو التي ذهبت مع الريح؟! التليفزيون المصري الذي شغل نفسه وشغل الناس في رمضان بموائد الرحمن وفتاوي الدعاة الجدد، وحوارات مع كل من هب ودب من الممثلين الجدد، وزيرو تسعمية، والمسابقات، والكمين، راح في غيبوبة التسالي الرمضانية من المدفع حتي الفجر، ونسي الكمين الذي يواجه الوزير المصري هناك ليس بالمؤامرة ولكن بالإعلام الجيد والنافذ وصاحب الرسالة في ظل السماوات المفتوحة، ثم نقول راح الأمريكان يتآمرون علي فاروق حسني، والاتحاد الأوروبي يتأمر، وشعبان عبدالرحيم يتآمر، لأنه لم يغن لوزير الثقافة "بحب فاروق حسني.. واكره إسرائيل"، أو كما غني لوزير المالية، في حملته الانتخابية، في شبرا مصر والشرابية! ثم تعالوا بنا إلي منطقة أكثر خطورة من مجرد إعلام بات محتاجا إلي إعادة نظر في أدائه التقليدي الغربي لم يتخل عنه علي مدي نصف قرن من الزمان، ألم يعلم وزيرنا الفنان أن المناخ الثقافي المصري مراقب من المنظمات العالمية وعلي رأسها اليونسكو ومنظمات حقوق الإنسان ولجان "نوبل"، ومن ثم فعندما منحت وزارة الثقافة جوائز الإبداع لكل من الشاعر "حلمي سالم" والدكتور "سيد القمني" هل نسي الوزير المدني أن المناخ الديني أفسد طعم الجوائز بعد المطالبة بردها إلي خزينة الدولة بأحكام واجبة النفاذ من القضاء المصري علي خلفية القضايا التي رفعها بارونات "الحسبة" ضد المبدعين بحجة الإساءة إلي الذات الإلهية والإساءة للسيرة النبوية والأسرة الهاشمية، حدث هذا في توقيت ليس في مصلحة فاروق حسني لأن ذلك ألقي بظلال الشك حول افتقاد وزير الثقافة المصري في حماية حرية التغيير وحماية الإبداع بشكل عام. ولما كان إعلامنا علي مدي نصف قرن يحتفي ويهلل لمصادرة الإبداع فقد شارك في الخصم من رصيد فاروق حسني حتي لو بحسن نية علي طريقة "اللي ما يشتري يتفرج علي دولة الإبداع والجوائز التي ترد إلي خزينة الدولة"! طرحت إحدي جرائد المعارضة الكبري في مصر استفتاء حول منح الدكتور "سيد القمني" جائزة الإبداع وعلي المشارك في الاستفتاء أن يختار حسب رؤيته إحدي احتمالات ثلاثة تنحصر في السؤال التالي: هل منح "سيد القمني" الجائزة احتراما لحرية الرأي أم مساندة وزير الثقافة في حملته للفوز برئاسة اليونسكو أم مغازلة للفكر الغربي من منطلق إطلاق الفكر بلا حدود؟ من هذا المنطلق فالاستفتاء له وجاهته، فلو افترضنا أن وزير الثقافة فاروق حسني قام بتقديم القرابين للفوز برئاسة اليونسكو لأسبقية منح الجوائز لكل من الشاعر "حلمي سالم" و"سيد القمني" قبل انتخابات اليونسكو بوقت قصير فقد نسي أو تناسي بالمقابل النصف الفارغ من الكوب وهو الأجدر بتكريم الرموز التاريخية للإبداع علي مدي خمسين عاما، وهذا ليس انتقاصا من قدر "حلمي سالم" والدكتور "سيد القمني" ولكن عنصر التوقيت فقط هو الفيصل، والحق أحق أن يتبع لإعطاء كل ذي حق حقه أمام المجتمع الدولي ومنظماته الثقافية وعلي رأسها اليونسكو، فعلي سبيل المثال وليس الحصر هل تجاهل اسم الدكتورة "نوال السعداوي" ورفع اسمها من قوائم التكريم والتجاهل الرسمي لها من الدولة كان سببا جوهريا في الإطاحة بكرسي اليونسكو في الفضاء، وهي إحدي الرموز المصرية والعالمية التي لم تكرم في وطنها وكرمها الآخر وإن اختلفنا معها؟! ربما يكون ذنب هذه السيدة العظيمة أنها لم تنافق، ولم تهادن، ولم تقدم تنازلات للإرهاب الفكري، ولم تساوم، لأنها ببساطة شديدة إنسانة تحترم عقلها، وتسعي لتحرير العقل العربي والمصري من الأغلال والموروثات والدجل والشعوذة الدينية، وتقدس حرية الاختيار، قد نختلف معها كثيرا ولكن نجد أنفسنا نحترمها أكثر، فهي صاحبة أكبر "كاريزما عقلية" في القرن الحادي والعشرين! لو كان الزمان.. غير الزمان لو كان المكان.. غير المكان أو حتي تلاشت الأزمنة أو اختفت كل الأمكنة فربما التقينا قبل الزمان ربما افترشنا اللامكان أو سافرت أرواحنا علي أجنحة السفر إلي المحال ربما.. ولكني مسافر في عينيك وأبدا.. لم أفقد هويتي في الترحال