"شربة ماااء".. تلك هي منتهي الحلم لسكان قري كثيرة في محافظة القليوبية الآن، خصوصا بعد أن امتنعوا من التعامل مع كل مصادر المياه الموجودة عندهم لأن بها سما قاتلا ووباء مدمرا! الحكاية الكارثية أن هناك بشرا يعيشون بيننا في أقرب محافظة تحتضن القاهرة وبينما نحن في الألفية الثالثة يشربون المياه لا بطعم الخوخ والتفاح والمانجو وإنما بنكهة وطعم المجاري والصرف الصحي.. فهناك في القليوبية مازلنا نسمع عن مرض التيفود وقد تفشي في بعض قري المحافظة نتيجة عناق واندماج بين مواسير الصرف الصحي وشبكة مياه الشرب! النتيجة أن التيفود يهدد الآن 215 قرية محرومة من مياه الشرب النقية.. في الوقت الذي فيه المرض بالفعل يعشش في أمعاء أبناء البرادعة والخرقانية حيث يؤكد البعض أن الأرقام الحقيقية لضحايا غفلة المسئولين ونومتهم في العسل وصلت إلي ثلاثة آلاف حالة. والبديهي أن المسئولين عن وقوع الكارثة يتبادلون الاتهامات فيما بينهم.. نحن لا يهمنا أن يكون المحافظ أو وزارة الإسكان أو المقاولون، هذا شأن ستحسمه النيابة فيما بعد، لكن ما يهمنا هو ألا يستفحل الوباء وأن يمتد لقري أكثر وأكثر تضطرها الظروف القهرية للشرب من مياه ملوثة موجودة في شبكات لم نعرف أنها مهلهلة إلا بعد أن تساقط الضحايا بالعشرات. فالآن.. وبعد أن وقعت الفأس في الرأس انتبهنا إلي وجود شيء اسمه عينات يومية تؤخذ من شبكة مياه القري الموبوءة والمصابة لتحليلها بينما لم نفكر من قبل ولو علي سبيل الاطمئنان أن نأخذ عينات ولو حتي سنوية لكي نعرف ما إذا كان البشر في تلك القري يشربون مياها نقية! أم أنهم يشربون المهل يشوي البطون! سكان هذه القري الآن وبعد ذعر المسئولين عنهم وخوفهم علي مقاعدهم يشربون هذه الأيام المياه المعدنية.. سبحان مبدل الأحوال.. فبعد منابع الصرف الصحي التي كانوا ينهلون منها الآن، تم تكليف شركات المياه المعدنية بإمداد الخرقانية والبرادعة وغيرهما من القري المصابة بآلاف العبوات يوميا.. في الوقت نفسه يتم مدهما بفناطيس مياه نقية.. أيضا تم تخصيص عدد كبير من حنفيات الشرب العمومية لخدمة هذه القري.. فأين كان كل هذا الاهتمام؟، ولماذا لا يظهر هذا الحنان إلا في الملمات والمصائب التي تهدد بزوال المسئولين وليس بفناء المواطنين!! ويبدو أن قري في محافظات أخري سوف تكشف تقصير المسئولين وتفضح أمرهم.. فهناك 15 إصابة بالتيفود في الشرقية مستشفي حميات فاقوس به 8 حالات ومستشفي أبوكبير به 7 حالات، والسبب كما يعلل أعضاء مجلس الشعب هو تلوث مياه الشرب، واختلاطه بالصرف الصحي منذ 20 عاما، ويبدو أن المشكلة تهدد محافظة الإسكندرية هي الأخري.. فمياه الصرف الصحي أغرقت 10 مناطق مزدحمة في حي المنتزه ومنعت مياه المجاري الأهالي من مغادرة منازلهم، ومسئولو الحي فشلوا تماما في إنقاذ المنازل والشوارع الغارقة فيها.. وهكذا تعددت النتائج في أكثر من محافظة لكن السبب دائما واحد.. وهو الإهمال والطناش واتكالية المسئولين.. فالمجلس المحلي في الإسكندرية قد أوصي منذ 6 أشهر بتغيير الشبكات ودعمها ولكن القرارات ظلت حبيسة الأدراج ولن يكتب لها الخروج إلا بعد أن يخرج من الحياة ضحايا بأمراض التيفود وغيره.. حينها فقط سيسارع المسئولون بعمل اللازم حتي لا يخرجوا بدورهم من جنتهم! حزني شديد ولا نهائي علي ما نحن فيه، فوحلة المجاري التي نغرق فيها الآن، المفترض أننا نكون قد تجاوزناها بسنوات ضوئية لننشغل بأمور أخري تليق بالزمن الذي نعيش فيه. والمفترض أيضا أن هموم المواطنين وقلقهم يكون قد تعدي وتخطي دائرة (شربة المياه النقية واللقمة المرية) بكثير لكن هناك وللأسف الشديد من يصرون علي إغراقنا في مستنقعات الماضي السحيق وأوحالها. تخيلوا الناس من فقرهم في محافظة القليوبية قد هرعوا إلي المستشفيات من أجل الحصول علي شهادات تفيد بإصابتهم بمرض التيفود لتقديمها إلي الوحدة المحلية، وذلك علي أمل أن ينفذ المحافظ وعده بصرف 500 جنيه لكل مصاب.. حسبوها وأخذوها من "قصيرها".. بالتيفود ربما يموتون.. وبالجوع قد يموتون أيضا.. "واللي يطولوه من الحكومة فايدة".. والله حرام!