ربما نتفق علي فشل العملية العسكرية الإسرائيلية الجارية في القطاع الآن، إلا أن فيها ما يجب تعلمه. وأهم ما في هذا أن الحرب الدائرة ضد "حماس"، تؤكد مجدداً استحالة استئصال الحركات المتطرفة في منطقة الشرق الأوسط بالوسائل العسكرية. وفيما لو أدركت إدارة أوباما المقبلة هذه الحقيقة، فسوف تتوافر لها فرصة أفضل لتحييد هذه الجماعات المدعومة من قبل إيران مثل "حماس" و"حزب الله"، وتتمكن في نهاية الأمر من التوسط في التسوية السلمية للنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني. فقد راهنت إسرائيل من خلال عمليتها هذه علي نزع الأسنان العسكرية "حماس"، ومن ثم إرغامها علي قبول اتفاق لوقف إطلاق النار وفقاً لشروطها هي. وفيما يبدو كانت "حماس" قد رفضت الإذعان لشروط إسرائيل قبل اندلاع الحرب، ونظرت إلي النصر بمعيار بقائها أولاً. وعليه فلم يكن ثمة حافز لها لقبول صفقة هدنة جديدة مع إسرائيل، ما لم تعد عليها هذه الهدنة بالمكاسب التي تتطلع إلي تحقيقها، مثل وضع حد للحصار الاقتصادي المفروض علي القطاع. ويعني هذا أن علي إسرائيل أن تختار بين أحد الخيارات الثلاثة: إما أن تسعي للإطاحة بحكومة حركة "حماس"، وهو هدف باهظ التكلفة ويتطلب استمرار بقاء الجنود الإسرائيليين في القطاع إلي أجل غير مسمي، أو تقديم تنازلات كبيرة لصالح "حماس"، أو الانسحاب العسكري من القطاع دون توفير الضمانات الكافية لوقف إطلاق الصواريخ ضد مواطنيها المقيمين في البلدات المجاورة للقطاع. وفي أحسن الأحوال ربما يحصل رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت علي اتفاق دولي يقضي بنشر قوة دولية تعينه علي وقف تهريب الأسلحة إلي غزة، وهو أمر لا يتطلب تحقيقه الحصول علي موافقة حركة "حماس". غير أن هذا الإجراء لن يمنع الحركة من الاستمرار في صنع صواريخها، أو أن تزعم لنفسها مثلما فعل "حزب الله" اللبناني، نجاحاً في مقاومة الغزو الإسرائيلي. السبيل الوحيد لهزيمة "حماس" هو العمل السياسي. فليس للفلسطينيين تاريخ طويل من التعاطف مع التيارات الأصولية، ومن الواجب إقناعهم باختيار قيادات أكثر اعتدالاً، كقيادات "فتح". وخلافاً لتنظيم "القاعدة"، فإن "حماس" ليست حركة إرهابية فحسب، إنما هي حركة سياسية اجتماعية لديها أيديولوجيا تعادي كلاً من الغرب وإسرائيل. وبسبب تطرفها، فهي تستثمر الحروب والمعاناة والآلام التي تسببها لمواطنيها، إلي جانب استثمارها السياسي لمشاعر الغضب العارم التي تثيرها الصور المروعة التي تبث عبر بعض الفضائيات الشرق أوسطية عن الأوضاع في القطاع. وعليه فإن كل يوم تستمر فيه الحرب الدائرة الآن، تستفيد منه "حماس"، وتتعزز فيه مكانة الحركات والمنظمات الحليفة لها في الدول الأخري، بل تتعزز فيه مكانة الدولة الراعية لها: إيران. رغم أنه يحق لإسرائيل أن توفر الحماية العسكرية لمواطنيها ضد الهجمات التي يتعرضون لها من مقاتلي "حماس"، فإن السبيل الوحيد لهزيمة "حماس" هي العمل السياسي. وبما أنه لم يعرف للفلسطينيين تاريخٌ طويلٌ من التعاطف مع التيارات الأصولية الدينية، فمن الواجب إقناعهم باختيار قيادات أكثر اعتدالاً، مثلما هو الحال في قيادات منظمة "فتح" العلمانية. وفي الوقت نفسه ينبغي التسامح مع بقاء حركة حماس، علي أن تشجع علي التعبير عن تطلعاتها القيادية بالوسائل السياسية السلمية وليست العسكرية. وهذا يعني الاستمرار في عقد الانتخابات العامة بذات الطريقة الديمقراطية النزيهة التي فازت بها حماس بانتخابات عام 2006. يذكر أن تلك الانتخابات كانت قد جرت بمعارضة من جانب إسرائيل، بينما أثارت نتائجها غضب إدارة بوش، رغم أن هذه الأخيرة كانت معنية بنشر الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط بأسرها. كما يلاحظ أيضاً أن السياسة قد بدأت تؤتي ثمارها خلال فترة الأشهر الستة الماضية من اتفاق التهدئة المبرم بين الطرفين، رغم أن التهدئة لم تكن سوي واقع نسبي تخللته بعض التحرشات والانتهاكات من كلا الطرفين. والدليل أن استطلاعات الرأي العام الفلسطيني التي أجريت أثناء فترة التهدئة، أشارت إلي تراجع شعبية "حماس" في أوساط فلسطينيي القطاع والضفة معاً. وفي المقابل شرع رئيس السلطة الفلسطينية أبومازن، يتحدث عن إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية، بدا أكثر ثقة بفوز من "فتح" التي يتزعمها في كلتيهما. وفي الوقت الذي كانت فيه مصر منشغلة بالتوسط من أجل إبرام صفقة بين الأطراف الفلسطينية، نشب نزاع داخلي بين قادة "حماس"، بين من يرغبون في تمديد اتفاق التهدئة الساري مع إسرائيل، وقادتها المتشددين المدعومين من قبل إيران، ممن فضلوا استفزاز إسرائيل وجرها إلي الحرب. وكان ينبغي لإسرائيل أن تؤمن فوز الجناح الأقل تشدداً في حركة "حماس" بهذا النزاع الداخلي، عن طريق رفع حصارها الاقتصادي المفروض علي القطاع، مقابل الحصول علي ضمانات بتنفيذ أفضل لوقف إطلاق النار. وعندها كان ممكناً لإسرائيل الاستمرار في التفاوض مع أبومازن حول حل الدولتين، في ظل ظروف معيشية أفضل للفلسطينيين. وبدلاً من أن تأخذ إسرائيل بذلك الخيار المتاح لها قبل شن الحرب، فضلت الانتصار لموقف التيار المتشدد داخل الحركة، فشنت عدوانها الحالي علي القطاع. ونتيجة للضغوط الدولية الممارسة عليها جراء تصاعد عدد القتلي وحجم الدمار ووحشية الصور التي تبثها الفضائيات، فقد تعين عليها إما القبول بتسوية لن تحقق لها أهداف شن الحرب، أو مواصلة عذابها الحالي إلي أجل غير مسمي. وعلي الأرجح، فإن عليها القبول بالتسوية حتي يتمكن قادتها الجدد الذين سوف يتم انتخابهم في شهر فبراير المقبل، من التعاون مع الإدارة الأمريكيةالجديدة علي تنفيذ استراتيجية جديدة أكثر ذكاءً وفاعلية في مقاومة النفوذ الإيراني وعملائه في المنطقة.