شبهة الضغوط السياسية والإشارة إلي فساد الأحكام هو ما ردده بعض نواب الشعب وهيئة الدفاع في القضيتين بعد صدور الأحكام السابقة. يبقي القضاء المصري الشامخ هو الحصن الأخير للمصريين، بعد أن فقدوا الثقة في كل سلطات الدولة التنفيذية والتشريعية والرقابية، وبعد أن اختلطت الأمور وذابت المسافات بين هذه السلطات التي تزاوجت والتقت علي شيء واحد وهو تكريس كل طاقاتها لخدمة طبقة رجال المال والأعمال، الذين سيطروا علي كل مقدرات مصر. وسط هذا النفق المظلم، وتلك العتمة الحالكة، التي يشعر بها كل مصري غيور علي بلده ومستقبل الأجيال التي سقطت من حسابات الحكومة، كان القضاء المصري هو نقطة الضوء، وطاقة الأمل التي تنير ظلام حياتنا، ولكن للأسف يأبي أصدقاء الظلام وصناع الفساد أن يظل القضاء المصري علي طهره وشفافيته، فأخذوا يصوبون له السهام، وينقلون إليه عدوي الفساد التي تمكنت منهم، وكأنهم يستكثرون علي المصريين أن يظل قضاؤهم شامخا نزيها. وللأسف يحدث ذلك في ظل شعارات جوفاء مثل الشفافية وعدم التستر علي الفساد، وفي إطار حملة تحسين الصورة التي بدأها الحزب الوطني بعد مؤتمره الأخير، فقراءة متأنية للطعن المقدم مؤخرا في قضية " هايدلينا" المتهم فيها النائب "د. هاني سرور"عضو مجلس الشعب والقيادي في الحزب الوطني، ومن قبله الطعن في قضية " العبارة" تؤكد أن أحكام البراءة والإدانة في مثل تلك القضايا إنما هي صناعة حكومية، وأن القضاء بريء من الفساد الذي شاب ويشوب الأحكام التي صدرت ، وأنها كانت أحكاما سياسية في المقام الأول،وأن هناك ضغوطا سياسية كانت وراء أحكام البراءة ، خاصة وأن المتهمين الأساسيين في القضيتين ، كانا من أقطاب الحزب الوطني الحاكم، ومن النواب في مجلسي الشعب والشوري. نعم جاء الطعن من النائب العام، ولكن هذه الطعون وإن كانت في صالح العدالة وصالح الشعب، فهي في اعتقادي وقد أكون مخطئا إنما جاءت تحت ضغط الرأي العام، وفي محاولة لامتصاص السخط الشعبي، وأيضا لتحسين صورة الحكومة، وإن كانت الطعون تحمل في طياتها اعترافا ضمنيا بالخطأ والتقصير والمساهمة في المحصلة النهائية للأحكام وخاصة في قضية " العبارة" التي تحولت من جناية قتل أكثر من ألف مصري إلي مجرد جنحة. نعم خيرا فعل النائب العام وهذا هو المتوقع منه دائما فهو ممثل الشعب والمدافع عن حقوق الناس، وخيرا فعل عندما تقدم بطلب إعادة المحاكمة، ولكن هذه الطعون تحمل أيضا اعترافا ضمنيا ببعض الأخطاء التي شابت صدور هذه الأحكام. ويتضح هذا من قراءة قرار النائب العام المستشار عبد المجيد محمود بخصوص الطعن في الحكم الذي أصدرته محكمة الجنايات ببراءة المتهمين في قضية " هايدلينا " الخاصة بتوريد الشركة أكياس دم ملوثة إلي وزارة الصحة، بسبب ما اعتبره "خطأ في تطبيق القانون، ومخالفة الحكم للثابت في أوراق القضية، والتعسف في الاستنتاج، وتناقض أسباب الحكم، وعدم صحة إجراءات إصداره". وكانت هذه القضية التي شغلت الرأي العام في مصر تسعة شهور أثارت جدلاً واسعاً، إذ توفي رئيس المحكمة المستشار أحمد عزت العشماوي الذي كان متوقعاً أن يصدر أحكاماً مشددة بحق المتهمين بعد "إصابته بمرض غامض"، بحسب أسرته، قبل أيام من جلسة النطق بالحكم. وأصدرت هيئة المحكمة الجديدة قرار البراءة بعد بضع جلسات. واضطرت وزارة العدل إلي نفي وجود شبهات في وفاة المستشار العشماوي. وأوضح النائب العام أن حكم البراءة "شابته أخطاء كثيرة" إذ استند إلي براءة المسئولين في شركة "هايدلينا" التي يملكها النائب هاني سرور "علي أساس أن نسبة العيوب الثابتة في أكياس الدم تدخل في نطاق النسب المسموح بها في قانون المناقصات والمزايدات، خلافاً لحالة هذه الأكياس التي أكدت التقارير الفنية أنها لا تصلح للغرض المعدة له، ولم تصدر موافقة من الجهة المختصة بقبولها". وأشار إلي أن "الحكم ارتكز علي نفي تحقيق الغش لما جاء في تقرير لجنة الطب الشرعي المشكلة بمعرفة النيابة العامة من سلامة مكونات سائل منع التجلط، وتجاهل باقي العيوب الثابتة في التقارير الفنية الأخري، ومنها ما يؤدي إلي تعرض المتبرعين بالدم للإغماء ووجود ميكروبات وانبعاث رائحة في بعض القرب تؤدي إلي تسلل البكتريا إلي دم المريض وإصابته بتسمم". ولفت إلي أن الحكم أشار إلي أن سرور وشقيقته نيفان العضو المنتدب في الشركة لم يتدخلا في أعمال المناقصة والتوريد "خلافاً لما هو ثابت من الأوراق، إذ حضر سرور خمسة اجتماعات مع مسئولي وزارة الصحة علي موضوع المناقصة ومع مفتشي إدارة الصيدلة في المصنع تعلقت بخطأ إنتاج الشركة واستيراد ماكينات وخامات الإنتاج". وأوضح أن "الحكم ذكر عدم ورود شكاوي من الجهات المستعملة للقرب من أي عيوب فيها، بينما ثبت من الأوراق وجود شكاوي". وأكد النائب العام عدم صحة إجراءات الحكم، "إذ صدر من محكمة الجنايات بتشكيل مغاير لتشكيل الدائرة التي استمعت إلي مرافعة النيابة العامة، كما أن المحكمة قبلت مذكرة للدفاع عقب إغلاق باب المرافعة واستندت في حكمها إلي بعض ما أوردته هذه المذكرة من دون فتح باب المرافعة وتمكين النيابة العامة من التعليق علي ما ورد فيها". وشبهة الضغوط السياسية والإشارة إلي فساد الأحكام هو ما ردده بعض نواب الشعب وهيئة الدفاع في القضيتين بعد صدور الأحكام السابقة، فقد شكل قرار المحكمة ببراءة سرور وشركائه مفاجأة للجميع، حيث سادت توقعات بصدور حكم بالسجن يتراوح ما بين 3 إلي 7 سنوات، فضلا عن الغرامة، كما لم يكن متوقعًا صدور الحكم بسرعة بعد تولي مستشار آخر رئاسة المحكمة بعد المستشار أحمد عزت العشماوي الذي توفي بعد إصابته بفشل كلوي وتدهور حالته الصحية! قال النائب السابق والقيادي في حزب التجمع" أبو العز الحريري" تعليقا علي الحكم في قضية الدم الفاسد: من الواضح أن الرشاوي ثابتة وعامل أساسي في الحصول علي البراءة،كون التهم كانت ثابتة علي المتهمين فكيف يحصلون علي البراءة في النهاية؟ ". وهو نفس الأمر الذي حدث في قضية " العبارة السلام 98 "التي غرقت في فبراير 2006 وراح ضحيتها 1033 قتيلا و387 مصابا، وهي القضية التي أصابت الرأي العام المصري بصدمتين، الأولي عند غرق العبارة والثانية بعد تبرئة المتهمين في القضية. وكانت محكمة أول درجة بسفاجا قضت في 27 يوليو الماضي ببراءة خمسة متهمين علي رأسهم إسماعيل ونجله عمرو المتهم أيضاً في القضية، اللذين فرا إلي بريطانيا بعد غرق العبارة وهي في طريقها من ميناء ضبا السعودي إلي ميناء سفاجا المصري، "لعدم الاطمئنان إلي قرائن النيابة عن تقاعسهم عن إنقاذ الضحايا"، لكن المحكمة عاقبت ربان العبارة "سانت كاترين" صلاح جمعة الذي قررت سجنه 6 شهور وغرمته 10 آلاف جنيه (أقل من ألفي دولار) لتقاعسه في نقل المصابين، خوفاً علي سلامة عبارته. وطعن النائب العام المستشار عبد المجيد محمود بالاستئناف علي الحكم، لكن مصادر قضائية أكدت صعوبة إدانة ممدوح إسماعيل ونجله في القضية إذ أن اتهامات النيابة محصورة علي أن المتهمين علموا بغرق العبارة ولم يخطروا أجهزة الإنقاذ. وطالب فريق المدعين بالحق المدني بإعادة القضية مرة أخري إلي النيابة العامة لتعديل القيد والوصف من جنحة قتل خطأ إلي جناية قتل عمد، وتوقيع أقسي عقوبة علي المتهمين والمطالبة بالتعويض المدني المؤقت. وعقب صدور الحكم عبر هشام رجب" محامي عدد من أسر الضحايا عن عميق أسفه للحكم الذي صدر بتبرئة ممدوح إسماعيل ونجله وأكد أن هناك ضغوطا سياسية مورست وأنها اتضحت في هذه المحاكمة علي عكس المحاكمات ال 22 التي مضت، وأضاف أن أسباب الصدمة أن الحكم لم يلْقِ بالمسئولية مطلقا علي أصحاب العبارة وأولهم "ممدوح إسماعيل" الهارب منذ وقوع الحادث في يناير 2006 إلي لندن، رغم كل الأوراق التي قدمتها الجهات المعنية وأثبتت عدم صلاحية العبارة للإبحار بهذا العدد الضخم الذي كانت تحمله وعدم توافر شروط وأسباب السلامة والأمان مما تسبب في غرق هذا العدد الضخم من الضحايا "ما يقرب من 1036 ضحية". وهذا أيضا ما أكده د. "جمال زهران" أستاذ العلوم السياسية وعضو مجلس الشعب المستقل فقد اعتبر أن الحكم يغلب عليه الطابع السياسي، واعتبر الاستئناف الذي تقدم به النائب العام فور صدور الحكم بالبراءة مباشرة نوعا من امتصاص غضب الشعب ومحاولة لإرضائه، مؤكدا أن الخطأ الأساسي يكمن في قيام النيابة بتحويل القضية من جنايات لجنح قائلا: "القضية عامة فيها العديد من الشبهات والحكم الصادر يدل علي فساد المناخ بشكل كامل في مصر". ويومها أيضا قال "محمود رضوان" عضو لجنة الحريات ورئيس محامون ضد الفساد: أنهم سيقدمون شكوي للتفتيش القضائي من أجل التحقيق مع قاضي جنح سفاجا الذي أصدر حكمه بالبراءة معتبرا أن هذه أول خطوة في طريق كشف المؤامرات والصفقات التي تمت علي خلفية القضية علي حد تعبيره. ويقيني أن ما يحدث الآن هو أسلوب التعامل الأمثل مع الرأي العام كما تراه حكومتنا، وهو امتصاص الغضب ثم التهدئة والمط والتطويل في حيثيات القضية حتي ينسي الناس أو يصابون بالملل والإحباط، ثم يأتي الفصل الأخير للمهزلة بإصدار الحكم مصاحبا بتعتيم إعلامي و بأحداث أخري للتغطية علي الحكم، ثم عندما يحدث السخط يتحرك النائب العام، وهكذا، وهذا بالظبط ما حدث في قضية العبارة وقضية ها يدلينا. ومهما حاول البعض النيل من سمعته سيبقي القضاء المصري هو نقطة الطهر والضياء وحصن الأمل الذي نأمل أن يستمر هو الحصن الذي يتحصن به المصريون.