رفاعة رافع الطهطاوي منذ ما يزيد علي 100 عام ... "فليكن الوطن مكان سعادتنا أجمعين" ... نقول.. "فلتكن الأديان جميعها وحيا لسعادتنا أجمعين".. فإذا كنا نأمل وننشد مجتمع المواطنة والتسامح فعلاً فلابد ألا يكون هناك معذب أو شقي ... ولأولي الأمر القرار الفصل. كتبت هنا من قبل - في مقالي الأسبوعي كل ثلاثاء _ ثلاثة مقالات متتابعة تعليقا علي تصريحات قداسة البابا شنودة علي الحكم الصادر من المحكمة الإدارية العليا بشأن الزواج الثاني من القبطي المطلق ... وتعرضت لفكرة سيادة القانون ووجوب عدم اختراقه أو الالتفات عليه تحت أي سند ... وكنت قد تصورت أن الموضوع قد أغلق باحترام الحكم الصادر طبقا للائحة الأقباط لعام 1938م ولكن سرعان ما سارت الرياح عكس توقعاتي، واعتقد عكس توقعات أو أمنيات الآلاف من الأقباط المصريين. وقد يتساءل البعض ما علاقتي أنا بهذه القضية، فهذا شأن قبطي يخص أقباط مصر وعلاقتهم الأزلية بالكنيسة الأرثوذكسية، ولكن من يبحث ويسعي للدولة المدنية الحديثة لا يجب أن يغض البصر عن أي قضية تمس تماسك البنيان الاجتماعي أو تساهم في عرقلة المدنية بكافة معانيها.. وقد أكون بهذا المقال قد اقتربت من لغم كبير قد ينفجر في عندما تصلني الردود عليه سواء عبر النشر أو عبر البريد الإلكتروني .... ولكني علي يقين أيضا أن ما سأتعرض له يهم آلاف المواطنين الأقباط لأنهم مصريون في المقام الأول وسعادتهم وشقاؤهم من سعادتنا وشقائنا ... فقد عقدت الكنيسة الأرثوذكسية مؤخرا اتفاقا مع الدولة بوضع لائحة جديدة للأحوال الشخصية للأقباط فيما يخص أمور الطلاق والزواج لإنهاء الأزمة التي تفاقمت في السنوات الأخيرة، وهي الأزمة التي جعلت الكنيسة في مواجهة مع الأحكام القضائية، خاصة بعد تصريحات قداسة البابا بقوله "إن الكنيسة لا يمكن أن تطبق أي شريعة غير المسيحية وما جاء في الكتاب المقدس" ويضيف ... "لن أتنازل عن قوانين الكنيسة مهما يحدث ولن أقبل أي مخالفة ضد التعاليم المسيحية" .. ويبدو أن هناك اتفاقا بين بعض مؤسسات الدولة والكنيسة علي تعديل لائحة 1938 التي أقرها المجلس الملي العام آنذاك وتم تفعيلها قرابة أربعين عاما حتي مجيء قداسة البابا شنودة وأوقف عملها بقرار منه، علي اعتبار _ من وجهة نظره _ أنها ضد تعاليم الكتاب المقدس ... وأنها تضمنت أسبابا للطلاق تخالف تعاليم الإنجيل ... والسؤال: هل المجلس الملي العام الذي أقر هذه اللائحة ووضع سبعة أسباب للطلاق لم يكن علي دراية بالكتاب المقدس، وهل قادة الكنيسة الأرثوذكسية المتعاقبة طوال أربعة قرون لم يكونوا يعلمون تعاليم الكتاب المقدس، أو أنها كانت ضده وخرجت عن تعاليمه قصدا وعمدا؟ وهل الذين استفادوا من هذه اللائحة طوال أربعة قرون أي ما يقرب من جيلين كاملين يعدون الآن خارجين عن تعاليم الكتاب المقدس وصاروا _ إن كان منهم حيا _ أصحاب خطايا؟ .. وهنا نأتي للتعديلات المقترحة (قامت بنشرها الزميلة المصري اليوم في 21/5/2008م)والتي من أخطرها _ والتي تبدو أنها لمصلحة الأقباط _ أن علي جميع الأقباط الذين حصلوا علي أحكام بالطلاق من المحاكم في السنوات الماضية، عليهم أن يتقدموا بدعاوي قضائية جديدة وفق اللائحة الجديدة _ بعد إقرارها _ إذا ما صمم الطرفان علي الطلاق، وإذا حكمت المحكمة لهم بالتطليق فإن الكنيسة ستمنحهم ترخيص زواج ثانيا .... وهذا التفات متعمد المقصود منه حرمان هؤلاء من الأحكام التي صدرت لهم، ومنحتهم الحق في الزواج الثاني، فكيف يمكن أن يقيموا دعاوي أخري _ في حالة إقرار اللائحة الجديدة _ والتي تتضمن أسبابا مختلفة للطلاق، وبالتالي فالمحكمة ستكون ملتزمة باللائحة الجديدة وسيكون مصير هؤلاء سحب ما منحته المحكمة لهم من قبل ... فهل في هذا عدل وسعادة للبشر أم شقاء في شقاء، فكيف بعد كل هذه السنوات من الدعاوي وعندما تحسم الأحكام لصالحهم تدعوا اللائحة الجديدة إلي الرجوع للمربع رقم صفر مرة أخري؟ الأمر الذي يؤكد ذلك أن اللائحة الجديدة حددت أسبابا صعبة للطلاق وألغت كافة الأسباب الإنسانية التي أقرتها لائحة 1938م مثل المادة 53 التي تقول في أسباب الطلاق ... "إذا أصيب أحد الزوجين بجنون مطبق أو مرض معد يخشي منه علي سلامة الآخر... الخ" .. والمادة 55 التي تقول.. "إذا اعتدي الزوجان علي حياة الآخر أو اعتاد إيذاءه حسبما يعرض صحته للخطر.. الخ" .. .. والمادة 56 التي تقول .. "إذا ساء سلوك أحد الزوجين وفسدت أخلاقه وانغمس في حياة الرذيلة ...الخ" .. والمادة 57 التي نصت علي.. "يجوز أيضا طلب الطلاق إذا أساء أحد الزوجين معاشرة الآخر أو أخل واجباته نحوه إخلالا جسيما.. الخ" ... والمادة 58 التي تقول.. "يجوز الطلاق إذا ترهبن الزوجان أو أحدهما.. الخ" .. وشددت اللائحة المقترحة علي أنه لا طلاق إلا لعلة الزنا استنادا إلي نص الإنجيل .. وبذلك تكون كافة أسباب الطلاق الواردة في لائحة 38 قد ألغيت فعلا، إضافة إلي إلغاء المادة 69 التي تقول .. "يجوز لكل من الزوجين بعد الحكم بالطلاق أن يتزوج من شخص آخر .. الخ" ... ومن هنا فلن يتم الاعتراف بكافة الأحكام التي سبقت _ في حالة تعديل اللائحة المقترحة _ وبالتالي أيضا نعود للأساليب القديمة التي تتحايل علي ذلك وتزيد من الاختناقات الطائفية نظرا لأن العديد من المواطنين الأقباط المصريين سيضطرون مع هذا التعسف والحرفية في تفسير النصوص أن يلجأوا للخيارات الأخري المتاحة وهي إما الانتحار أي الموت _ كما هو منصوص في اللائحة المقترحة _ أو تغيير الملة أي الدين؟ وترجع ريمة لعادتها القديمة، فلا التاريخ كان عبرة وإفادة ولا التطورات التي حدثت أثرت ولا المعاناة والشقاء حركات جفون المفسرين الحرفيين للنصوص الدينية ... وقبل الأخير من المعروف أن هناك فئتين يتعاملان مع الدين، الأولي من تري أن الدين لا يمكن إخضاعه للدراسة الموضوعية والثانية تري أن كل ظاهرة اجتماعية يمكن دراستها وبالطبع هناك تباين في داخل كل فئة من الفئتين ... فالفئة الأولي تنادي بأن الدين حقيقة أزلية تقع خارج الزمان والمكان ولذا فكل ما في استطاعة البشر هو الخضوع التام لهذه الحقيقة الأزلية وإتباع ما يعتقد أنها جاءت به لخلاص الإنسان وسعادته في صورته المطلقة كإنسان أو كفرد أو في حيز المجتمع ... أما الفئة الثانية فهي فئة واسعة تختلف باختلاف المواقف الفكرية للاتجاهات بل وداخل الاتجاه نفسه بعدد التفسيرات بالنسبة للاتجاه الواحد .. فالدين _ كجزء من إدراك الإنسان ما حوله _ يكون جزءا مهما من سمات الوعي الأساسية ... ولهذا فهو مع البشر منذ بداية التاريخ وسيظل معنا في صوره المتعددة، ولكنه يتشكل ويتداخل مع أشكال الوعي الأخري والتنظيم الاجتماعي ويؤثر فيها ويتأثر بها تبعا للظروف الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية التي يوجد فيها .. وهو مثله مثل أشكال الوعي الأخري يعطي ويتقبل معاني متعددة ومختلفة ... ومن هنا فالدين لم يكون ولن يكن منفصلا عن الواقع والسياق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ...فكما قلت من قبل وبالحرف الواحد أنه من المؤكد واليقيني أن مفهوم الدولة عندما ترسخ كان الهدف منه هو تنظيم حركة المجتمع والحفاظ علي تماسكه وأمنه من خلال مؤسسات بعينها موكل إليها اختصاصات محددة، تتكامل وتتقاطع جميعا من أجل مصلحة المجتمع وكافة أعضائه، وعندما وُجد القانون وجد لتنظيم حقوق وواجبات أعضاء المجتمع والاحتكام إلي النصوص القانونية التي تحفظ لكل فرد من أفراد المجتمع حقوقه، وبدون القانون وسيادته لا يمكن أن تكون هناك حماية للحقوق الفردية والجماعية ... وعندما أوصي الله لرسله بدياناته المتلاحقة كان الغرض منها بث التسامح والتعاطف والتعاضد بين الناس وبث روح التعاون وتنظيم حياتهم الروحية وإعلاء قيمهم الإنسانية، ولم تكن علي الإطلاق بغرض بث روح الشقاء والآلام للناس أيا كان الاستناد لأية نصوص معينة، فالأصل في الأديان جميعها هو خلق أنساق قيمية متسامحة تساهم في تحسين شروط الحياة والتفاعل مع معطيات كل عصر بما يسمح بتخفيف آلام الناس وشقائهم ... وأخيرا .. مناشدة للمؤسسات القانونية أن تدرك أن القوانين تسن واللوائح تكتب من أجل سعادة البشر وليس شقائهم، وأن كافة الأديان السماوية وغير السماوية منذ بدء التاريخ كان الهدف منها هو سعادة الإنسان علي الأرض وليس شقاءه، بغض النظر علي تفسير النصوص الدينية بحرفية وخارج سياقها الزمني والتاريخي والاجتماعي ... وأن آلاف الأقباط - وهم مصريون مثلنا نعيش علي أرض واحدة ونواجه تحديات واحدة ومصير واحد ومستقبل واحد - لهم علينا مراعاة حياتهم الاجتماعية والإنسانية قبل التقيد والتشدق بنصوص معينة ... ملحوظة: .. "قد يتساءل العديد من إخواننا الأقباط .. "مالك أنت ومال الشأن القبطي، ولماذا تدس أنفك وفكرك وقيمك علينا نحن الأقباط وتبث روح الفتنة بيننا وبين كنيستنا، ومالك أنت ولائحة 1938 و 2008م ومالك أنت بأربعة قرون مضت وأربعة قرون قادمة، فهذا شأننا نحن أقباط مصر وهذا ديننا وهذه كنيستنا"... وسأقول لهؤلاء إن من ينتمي للإنسانية فهو شريك فيها ... فالإنسان لا يوجد إلا في محيط اجتماعي ولكل محيط اجتماعي ماض وحاضر ومستقبل، ونظرا لأننا جميعا في وطن واحد ومحيط اجتماعي واحد، فلا مناص للدفاع عن حقوق المواطن أيا كان من أجل سعادته وتأجيل شقائه .. ومثلما قال رفاعة رافع الطهطاوي منذ ما يزيد علي 100 عام ... "فليكن الوطن مكان سعادتنا أجمعين" ... نقول.. "فلتكن الأديان جميعها وحيا لسعادتنا أجمعين".. فإذا كنا نأمل وننشد مجتمع المواطنة والتسامح فعلاً فلابد ألا يكون هناك معذب أو شقي ... ولأولي الأمر القرار الفصل ... انتهي ...