كتبت أولى مقالاتى هنا بعنوان القانون بين فم القاضى وفم الكاهن، تعليقاً على تصريحات قداسة البابا شنودة شفاه الله وعافاه وأعاده إلى الوطن سالماً معافاً على الحكم الصادر من المحكمة الإدارية العليا بشأن الزواج الثانى من القبطى المطلق.. وتعرضت لفكرة سيادة القانون ووجوب عدم اختراقه أو الالتفات عليه تحت أى سند.. وكنت قد تصورت أن الموضوع قد أغلق باحترام الحكم الصادر، طبقا للائحة الأقباط لعام 1938م، ولكن سرعان ما سارت الرياح عكس توقعاتى، وأعتقد عكس توقعات أو أمنيات الآلاف من الأقباط المصريين. وقد يتساءل البعض ما علاقتى أنا بهذه القضية، فهذا شأن قبطى يخص أقباط مصر وعلاقتهم الأزلية بالكنيسة الأرثوذكسية، ولكن من يبحث ويسعى للدولة المدنية الحديثة، لا يجب أن يغض البصر عن أى قضية تمس تماسك البنيان الاجتماعى، أو تساهم فى عرقلة المدنية بكافة معانيها.. وأنا على يقين أيضا أن ما سأتعرض له يهم آلاف المواطنين الأقباط، لأنهم مصريون فى المقام الأول، وسعادتهم وشقاؤهم من سعادتنا وشقائنا.. فقد عقدت الكنيسة الأرثوذكسية مؤخراً اتفاقاً مع الدولة، بوضع لائحة جديدة للأحوال الشخصية للأقباط فيما يخص أمور الطلاق والزواج، لإنهاء الأزمة التى تفاقمت فى السنوات الأخيرة، وهى الأزمة التى جعلت الكنيسة فى مواجهة مع الأحكام القضائية، خاصة بعد تصريحات قداسة البابا بقوله "إن الكنيسة لا يمكن تطبيق أى شريعة غير المسيحية، وما جاء فى الكتاب المقدس" ويضيف.. "لن أتنازل عن قوانين الكنيسة مهما يحدث، ولن أقبل أى مخالفة ضد التعاليم المسيحية".. ويبدو أن هناك اتفاقاً بين بعض مؤسسات الدولة والكنيسة على تعديل لائحة 1938، التى أقرها المجلس الملى العام آنذاك، وتم تفعيلها قرابة أربعين عاما حتى مجىء قداسة البابا شنودة، وأوقف عملها بقرار منه، على اعتبار من وجهة نظره أنها ضد تعاليم الكتاب المقدس.. وأنها تضمنت أسباباً للطلاق تخالف تعاليم الإنجيل.. والسؤال: هل المجلس الملى العام الذى أقر هذه اللائحة، ووضع سبعة أسباب للطلاق، لم يكن على دراية بالكتاب المقدس، وهل قادة الكنيسة الأرثوذكسية المتعاقبة طوال أربعة قرون لم تكن تعلم تعاليم الكتاب المقدس، أو أنها كانت ضده وخرجت عن تعاليمه قصدا وعمدا؟ وهل الذين استفادوا من هذه اللائحة طوال أربعة عقود، أى ما يقرب من جيلين كاملين يعدون الآن خارجين عن تعاليم الكتاب المقدس وصاروا إن كان منهم حيا أصحاب خطايا؟.. وهنا نأتى للتعديلات المقترحة والتى من أخطرها والتى تبدوا أنها لمصلحة الأقباط أن على جميع الأقباط الذين حصلوا على أحكام بالطلاق من المحاكم فى السنوات الماضية، أن يتقدموا بدعاوى قضائية جديدة وفق اللائحة الجديدة بعد إقرارها إذا ما صمم الطرفان على الطلاق، وإذا حكمت المحكمة لهم بالتطليق فإن الكنيسة ستمنحهم ترخيص زواج ثانيا.. وهذا التفات متعمد المقصود منه حرمان هؤلاء من الأحكام التى صدرت لهم، ومنحتهم الحق فى الزواج الثانى، فكيف يمكن أن يقيموا دعاوى أخرى فى حالة إقرار اللائحة الجديدة والتى تتضمن أسبابا مختلفة للطلاق، وبالتالى فالمحكمة ستكون ملتزمة باللائحة الجديدة، وسيكون مصير هؤلاء سحب ما منحتهم المحكمة لهم من قبل.. فهل فى هذا عدل وسعادة للبشر أم شقاء فى شقاء، فكيف بعد كل هذه السنوات من الدعاوى وعندما تحسم الأحكام لصالحهم، تدعوا اللائحة الجديدة إلى الرجوع للمربع رقم صفر مرة أخرى؟ الأمر الذى يؤكد ذلك أن اللائحة الجديدة حددت أسبابا صعبة للطلاق، وألغت كافة الأسباب الإنسانية التى أقرتها لائحة 1938م مثل المادة 53 التى تقول فى أسباب الطلاق.. "إذا أصيب أحد الزوجين بجنون مطبق أو مرض معد يخشى منه على سلامة الآخر.. إلخ".. والمادة 55 التى تقول.. "إذا اعتدى الزوجان على حياة الآخر أو اعتاد إيذائه حسبما يعرض صحته للخطر.. إلخ".. والمادة 56 التى تقول.. "إذا ساء سلوك أحد الزوجين وفسدت أخلاقه وانغمس فى حياة الرذيلة.. إلخ".. والمادة 57 التى نصت على.. "يجوز أيضا طلب الطلاق إذا أساء أحد الزوجين معاشرة الآخر أو أخل بواجباته نحوه إخلالاً جسيماً.. إلخ".. والمادة 58 التى تقول.. "يجوز الطلاق إذا ترهبن الزوجان أو أحدهما.. إلخ".. وشددت اللائحة المقترحة على أنه لا طلاق إلا لعلة الزنا استناداً إلى نص الإنجيل.. وبذلك تكون كافة أسباب الطلاق الواردة فى لائحة 38 قد ألغيت فعلا، إضافة على إلغاء المادة 69 التى تقول.. "يجوز لكل من الزوجين بعد الحكم بالطلاق أن يتزوج من شخص آخر.. إلخ".. ومن هنا فلن يتم الاعتراف بكافة الأحكام التى سبقت فى حالة تعديل اللائحة المقترحة وبالتالى أيضا نعود للأساليب القديمة التى تتحايل على ذلك، وتزيد من الاختناقات الطائفية نظرا لأن العديد من المواطنين الأقباط المصريين، سيضطرون مع هذا التعسف والحرفية فى تفسير النصوص أن يلجئوا للخيارات الأخرى المتاحة، وهى إما الانتحار أى الموت كما هو منصوص فى اللائحة المقترحة أو تغيير الملة أى الدين؟ وترجع ريمة لعادتها القديمة، فلا التاريخ كان عبرة وإفادة، ولا التطورات التى حدثت أثرت، ولا المعاناة والشقاء حركت جفون المفسرين الحرفيين للنصوص الدينية.. .. وأخيراً.. مناشدة للمؤسسات القانونية أن تدرك أن القوانين تسن واللوائح تكتب، من أجل سعادة البشر وليس شقائهم، وأن كافة الأديان السماوية وغير السماوية منذ بدء التاريخ، كان الهدف منها هو سعادة الإنسان على الأرض وليس شقائه، بغض النظر على تفسير النصوص الدينية بحرفية وخارج سياقها الزمنى والتاريخى والاجتماعي.. وأن آلاف الأقباط، وهم مصريون مثلنا نعيش على أرض واحدة، ونواجه تحديات واحدة، ومصيراً واحداً ومستقبلاً واحداً، لهم علينا مراعاة حياتهم الاجتماعية والإنسانية قبل التقيد والتشدق بنصوص معينة.. ملحوظة:.. "قد يتساءل العديد من إخواننا الأقباط.. "مالك أنت ومال الشأن القبطى، ولماذا تدس أنفك وفكرك وقيمك علينا نحن الأقباط، وتبث روح الفتنة بيننا وبين كنيستنا، ومالك أنت ولائحة 1938 و 2008م، ومالك أنت بأربعة عقود مضت وأربعة عقود قادمة، فهذا شأننا نحن أقباط مصر وهذا ديننا وهذه كنيستنا".. وسأقول لهؤلاء إن من ينتمى للإنسانية فهو شريك فيها.. فالإنسان لا يوجد إلا فى محيط اجتماعى، ولكل محيط اجتماعى ماضى وحاضر ومستقبل، ونظراً لأننا جميعا فى وطن واحد ومحيط اجتماعى واحد، فلا مناص للدفاع عن حقوق المواطن أيا كان من أجل سعادته وتأجيل شقائه.. ومثلما قال رفاعة رافع الطهطاوى منذ ما يزيد على 100 عام.. "فليكن الوطن مكان سعادتنا أجمعين".. نقول.. "فلتكن الأديان جميعها وحياً لسعادتنا أجمعين".. فإذا كنا نأمل وننشد مجتمع المواطنة والتسامح فعلاً، فلابد ألا يكون هناك معذب أو شقى.. ولأولى الأمر القرار الفصل.. انتهى..