الكاتب الشريف لا يبحث خارج موهبته وقدراته وايمانه بشعبه وامته، عن قوة يستمدها من حاكم او صاحب سلطان ايام معدودة فصلت بين مشهدين كان نجمهما الساطع الكاتب الكبير الاستاذ محمد حسنين هيكل.. الاول يوم الثلاثاء الماضي والثاني يوم الخميس الفائت.. في المشهد الاول كان هيكل مدعوا من نادي القضاة للتحاور معه حول قضايا الساعة وانهالت الاسئلة علي الاستاذ تطالبه بان يضيء مصابيحه كما عودنا منذ عقود فمازالت اذكر كيف كنا ننتظر بلفهة في الستينيات من القرن الماضي عدد اهرام يوم الجمعة لقراءة مقاله الاسبوعي بصراحة والذي كنا نعرف من خلال سطوره حقيقة اوضاعنا والمعارك التي نخوضها وتلك التي تنتظرنا بقيادة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر وبعدما رحل الزعيم بسنوات معدودة وخرج هيكل من الاهرام بعد مقالاته التاريخية عن عواقب واتفاقيات فك الاشتباك التي اعقبت حرب اكتوبر المجيدة انطلقت الحملات المسعورة والتنظيرات المضللة حول افول نجم هيكل "الذي كان يستمد قوته من قربه الشديد من الزعيم الراحل؟! وصدق البعض تلك التنظيرات" خاصة ان معظم اصحابها كانوا غير قادرين علي البقاء الا بالقرب من السلطة الجديدة وكانت كل مقوماتهم انهم مشمولون بالرضا السامي يرفلون في نعيمه ويستقوون بالمواقع التي منحهم اياها.. لكن لم يمض وقت طويل الا وسعت دور نشر عالمية الي الاستاذ تطلب منه ما يكتب سواء في مؤلفات مدعومة بالحقائق التي تدعمها بدورها الوثائق.. او في مقالات دورية لكبريات الصحف العالمية التي كانت تدرك ان هيكل يستمد قوته ككاتب ومحلل سياسي من قدرته علي قراءة الاحداث قراءة سليمة وعميقة وموضوعية.. وعندها اسقط في يد اصحاب نظرية ان قوة هيكل كانت في "استئثاره" بالمعلومات من مصدرها المباشر.. اي من عبدالناصر!.. كتابات هيكل ومؤلفاته دحضت هذه الاوهام وظل الرجل عملاقا في مجاله واعترف باستاذيته جيل بعد جيل فهو اذا كتب في مجلة وجهة نظر نفدت من السوق بعد ساعات من ظهورها وهو اذا ترجم له كتاب الي العربية باعت دور النشر الاف وربما ملايين النسخ من المحيط الي الخليج ولا يعني هذا ان كل من يقرأ مقالا او كتاباً لهيكل انما يتفق معه في الرأي ولكن الاكيد انه كان يدرك انه سيستفيد وان هيكل سيضيف الي معلوماته ومداركه.. واصبح هيكل ظاهرة بحق تشهد بذلك طلاته من قناة الجزيرة التي ضخت الدماء في شرايين الجدل السياسي وجعلت الجماهير تتوقف معه في المحطات المفصلية التي شكلت منعطفا في مسيرة الامة العربية يكشف خبايا وحقائق يصحح معلومات راجت او روجها البعض عمدا او جهلا او كسلا يحكي ببساطة "تجربة حياة" كشاهد امين ومنصف ومنزه عن الهوي والمطامع الصغيرة والكبيرة.. وانتقل صدقه الي العقول والقلوب كدليل جديد علي ان الكاتب الصادق الذي يحترم قلمه ويحترم جمهوره يضعه هذا الجمهور في ارفع مكان بحيث يستعصي علي اية افتراءات تافهة وينزع الحجة الكاذبة بان قوته لم تكن تنبع من ذاته.. في نادي القضاة تحلق الحاضرون حوله.. قضاة ومستشارون ورؤساء تحرير وصحفيون صغار وكبار سنا وخبرة.. كنت بين الحضور وكلنا اذان صاغية نستمع الي كلمات الاستاذ ونستزيده لنفهم ونعرف حتي يمكننا ان نقرر فلا اعتقد ان من بيننا من يبذل ما يبذله الاستاذ من جهد في القراءة والاطلاع والبحث عن الحقيقة مهما كانت المشقة وهو ما يجعله يتجول بوعي فريد بين وقائع التاريخ والسياسة ليدق ناقوس الخطر عندما قال: ان واقع الامة العربية يذكرني بما حدث في الاندلس.. وهذا الذي حدث في الاندلس تكرر التنبيه اليه بعبارات اخري جاءت في كلمة الاستاذ وهو يقدم ستيفن والت استاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد حول كتابه "اللوبي الاسرائيلي في الولاياتالمتحدة" بدعوة من مؤسسة هيكل للصحافة العربية.. امتلأت قاعة ايوارت بالجامعة الامريكية عن اخرها وكان الحضور من مختلف الاعمار، شباب في العشرين او ما دونها وكبار من سن الثلاثين الي ما فوق السبعين، ينصتون باهتمام بالغ الي تساؤل الاستاذ عن لغز علاقاتنا بالولاياتالمتحدة، فقال ان كبار السياسيين العرب يقفون عرايا امام المرايا للبحث عن عيوبهم واصلاحها حتي ينالوا رضا امريكا واضاف في موقع اخر ان المصالح الامريكية بالمنطقة في يد العرب.. لكن واشنطن تنحاز الي اسرائيل.. والحكام عليهم تسوية ديونهم ولو من جسد الاوطان والا عرضوا انفسهم للملاحقة وبعدها العقاب واشار الاستاذ الي كل ما بذله العرب الي حد ان وصل بعضهم الي تغيير الانساب وانكار الاصول ليعرضوا اصولا مختلفة بعد ان هيأوا الاسباب لحاضر مغاير ووصل بهم الامر الي حد اطلاق النار علي مراحل التاريخ العربي ظنا منهم ان ما فعلوه سوف يعجب العين الامريكية ويخطف قلبها.. فهل يستطيع احد انكار ذلك؟ هل يدلنا احد علي "مكسب" ولو صغير جنيناه منذ اكثر من ثلاثين عاما ونحن نتوه في دروب السياسة الامريكية المعادية للعرب؟ وهل ما قاله الرئيس الامريكي جورج بوش في القدس وفي شرم الشيخ لا يؤكد ما رصده الاستاذ الذي ينبهنا الي ضرورة اعادة النظر في مواقفنا قبل فوات الاوان؟ ما اريد الوصول اليه هو ان الكاتب الشريف لا يبحث خارج موهبته وقدراته وايمانه بشعبه وامته، عن قوة يستمدها من حاكم او صاحب سلطان.. ان السلطان الحقيقي هو الكلمة بكل معانيها ودلالاتها ولان الاستاذ آمن بالكلمة واعلي شأن الحق والحقيقة فانه يزداد تألقا وتتنامي شعبيته فكم من "كبار الكتاب" انزووا وطواهم النسيان لانهم لم يكونوا كتابا ولا كانوا كبارا.. بل كانوا ابناء "الصدفة" وليت كل من يمسك بالقلم يتخذ من الاستاذ قدوة حتي لو اختلف معه في الرأي.. المهم ان يتفق معه في "الا يخاف في الحق لومة لائم" وصحيح ان الاستاذ هيكل ظاهرة.. لكنه "ظاهرة" واضحة وبسيطة.. إنه لم يتنازل عما يؤمن به ويراه صوابا وقد دفع الثمن كما نعرف لكنه ثمن زهيد مقارنة برصده الهائل لدي ابناء الامة العربية وفي المقدمة في قلوب المصريين والذين احبوه وصدقوه فتدفقوا حيثما كان، يستمعون الي كلماته وتسعي اليه وسائل الاعلام المكتوبة والمرئية.. فحصار الموهبة الصادقة من رابع المستحيلات وهكذا حصار الكفاءة والعبقرية!