في حال استهدف تنظيم "القاعدة" أو إيران ناقلات البترول، فإن الرد العسكري الأمريكي سيكون بحرياتلعب القوة المسلحة دوراً محدوداً في حماية مصالح الولاياتالمتحدة في الشرق الأوسط، بل إن الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة يعد أحد منابع الإرهاب والتطرف الذي يهدد واشنطن".. هذه العبارة تلخص وجهة نظر الباحث "برادلي بومان" "Bradely L.Bowman" التي عرضها في دراسته المعنونة ب "بعد العراق: مستقبل التواجد العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط" أو "After Iraq: future U.S. military posture in the middle east". ونشرت هذه الدراسة في دورية "الواشنطن كوارتيرلي" أو "The Washington Quarterly". وتجدر الإشارة إلي أن "بومان" هو زميل مجلس العلاقات الخارجية للشئون الدولية خلال الفترة من 2007 إلي 2008، كما عمل كأستاذ مساعد سابق في الأكاديمية العسكرية الأمريكية في وست بوينت. المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط إن الوجود العسكري الأمريكي الفعال في الشرق الأوسط لابد أن يكون قائماً علي أو مرتبطا بمصالح الولاياتالمتحدة في هذه المنطقة. ورغم أهمية حماية إسرائيل والعمل علي توطيد العلاقات مع الحكومات العربية المعتدلة، إلا أن المصالح الحيوية الأمريكية في المنطقة تتبلور علي حد ذكر الدراسة في ثلاث مصالح رئيسية، هي: 1 ضمان تدفق النفط من دول الخليج العربي إلي الولاياتالمتحدة والدول الصناعية الأخري، وتتوقع وكالة الطاقة الدوليةEIA زيادة نسبة الاستهلاك العالمي من الطاقة بمعدل 71% خلال الفترة من 2003 إلي 2030، ومعلوم أن أمريكا تستورد حالياً نحو 60% من استهلاكها النفطي، وحسب تنبؤات وكالة الطاقة الدولية فإن الاعتماد الأمريكي علي واردات النفط الخارجي سيزيد إلي 62% بحلول عام 2030، ومن المنتظر أن تلعب دول الخليج دوراً مركزياً في إشباع الطلب المتزايد علي الطاقة في المستقبل، فحتي عام 2003 كانت هذه الدول تمثل 27% من إنتاج النفط العالمي وتتحكم في 57% من احتياطات النفط علي مستوي العالم و41% من الاحتياطات العالمية للغاز الطبيعي. وبحلول عام 2020، فإن المساهمة الخليجية في إنتاج النفط العالمي من المتوقع أن ترتفع إلي 33%، ومن ثم إذا لم يتمكن الاقتصاد الأمريكي أو حتي العالمي من الحصول علي هذا النفط أو الغاز الطبيعي، فإن العواقب السياسية والاقتصادية لذلك ستكون سيئة جداً. وتحذر الدراسة من ثلاثة مصادر رئيسية قد تهدد من خلالها الجماعات الإرهابية أو الدول العدوانية تدفق النفط من دول الخليج العربي. أولي مصادر التهديد هذه هي الاستقرار الداخلي، بمعني أن شيوع الاضطرابات في دولة منتجة للنفط مثل المملكة العربية السعودية قد يحول بدوره دون حصول الولاياتالمتحدة علي نسبة كبيرة من وارداتها النفطية الشرق أوسطية. أما مصدر التهديد الثاني فيتمثل في البنية التحتية النفطية بما تتضمنه من أنابيب النفط ومعامل التكرير، فعلي سبيل المثال تعرض حقل "أبقيق" السعودي في فبراير 2006 إلي هجمات إرهابية من قبل تنظيم "القاعدة"، ورغم أن الهجمات أسفرت عن أضرار ضئيلة بيد أن الحادث كان بمثابة مؤشر علي نية "القاعدة" استهداف البني التحتية النفطية. وأخيراً فإن مصدر التهديد الثالث هو الممرات البحرية، علي اعتبار أن نحو 17 مليون برميل أو 52% من التجارة العالمية للنفط تتدفق عبر مضيق هرمز يومياً. وهناك دول مثل إيران أو جماعات إرهابية مثل "القاعدة" قد تهدد تدفق هذا النفط عبر مضيق هرمز أو الممرات المائية الأخري مثل باب المندب الذي يربط بين البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب. 2 ضمان عدم تطوير الفاعلين الدوليين وغير الدوليين أو استخدامهم لأسلحة الدمار الشامل، وتعد إيران حالياً هي التهديد الأكبر في المنطقة الذي قد يقوض الجهود الأمريكية الهادفة لحظر انتشار الأسلحة النووية. فمن ناحية فإن طهران قد تستخدم هذه الأسلحة في شن هجوم علي إسرائيل، ومن ناحية أخري فإنها قد تزود الجماعات الإرهابية مثل "حزب الله" بتلك الأسلحة والتكنولوجيا والمواد النووية ذات الصلة لمهاجمة تل أبيب وتهديد المصالح الأمريكية، وبالإضافة إلي هذا وذاك فإن تطور القدرات النووية الإيرانية من شأنه أن يشجع الجمهورية الإسلامية علي تبني سياسة خارجية عنيفة، ناهيك عن زيادة السباق الإقليمي نحو التسلح النووي. 3 العمل علي إيجاد منطقة خالية من الجماعات المتطرفة مثل تنظيم "القاعدة" والحركات الإرهابية المرتبطة به، والتي تمثل بدورها الخطر الأكبر علي المجتمع الأمريكي وعلي مصالح الولايات في الشرق الأوسط. ومن ثم فعلي أمريكا أن تتعاون مع شركائها الإقليميين من أجل القضاء علي المتطرفين ذوي التوجهات الراديكالية، مع إدراك الأسباب التي تقف وراء انتشار التطرف في المنطقة ومن ثم ظهور أجيال قادمة من الإرهابيين. القواعد العسكرية الأمريكية ومدي تحقيق مصالح واشنطن تلقي الدراسة الضوء هنا علي الانتشار العسكري الأمريكي في المنطقة، لافتة إلي محدوديته خلال فترة الحرب الباردة، إذ نشرت الولاياتالمتحدة قوات لها في لبنان لشهور قليلة عام 1958، كما دعمت قوات حفظ السلام الدولية في لبنان خلال الفترة (1982 1984) وفي سيناء (1981 حتي الآن). وقبل نحو خمسة عقود من حرب الخليج، اعتمدت الولاياتالمتحدة في حماية مصالحها بالمنطقة علي حلفائها الإقليميين مثل السعودية (1933 حتي الآن) وإيران (1953 1979) بدلاً من الاحتفاظ بقواعد عسكرية ضخمة ودائمة في الشرق الأوسط. وخلال هذه الفترة حاولت أمريكا التقليل من النفوذ السوفيتي في المنطقة من خلال دعم الحكومات المناهضة للاتحاد السوفيتي وتقديم المنح الاقتصادية والعسكرية لها. وهكذا ظلت واشنطن لفترة طويلة تعتمد علي تلك الاستراتيجية في حماية مصالحها بالمنطقة، إلا أنها ومع أواخر عام 1989 لجأت إلي نشر نحو 700 جندي لها في دول البحرين والكويت وعمان والسعودية والإمارات العربية المتحدة مجتمعة. وتضيف الدراسة أنه بعد أن قام "صدام حسين" بغزو الكويت في بداية تسعينيات القرن المنصرم، نشرت الولاياتالمتحدة أكثر من 500 ألف من قواتها في المملكة العربية السعودية، وهو ما مثل نقطة تحول دراماتيكية في الإستراتيجية الأمريكية والوجود العسكري للولايات المتحدة بالمنطقة علي الرغم من الدعوات المتزايدة آنذاك للرحيل. وقامت واشنطن بنقل قواتها إلي مناطق نائية في المملكة، بيد أن ذلك لم يخفف من الغضب إزاء هذا الوجود الأمريكي الذي نظر إليه النظام السعودي باعتباره خطرا كبيرا. وأدي الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وما تبعه من الإطاحة بنظام "صدام" إلي تخفيض القوات الأمريكية الموجودة في السعودية. وتحتفظ أمريكا حالياً بأكثر من 220 ألف جندي في العراق ودول مجلس التعاون الخليجي الست (البحرين والكويت وسلطنة عمان وقطر والسعودية والإمارات العربية المتحدة). وعلي الرغم من هذا التزايد المطرد في الوجود العسكري الأمريكي بالشرق الأوسط، إلا أن الدراسة تري أن الولاياتالمتحدة تحتاج إلي قوات عسكرية محدودة للتصدي للمخاطر التي تهدد مصالحها الرئيسية الثلاث السابق الإشارة إليها، ويمكن توضيح ذلك كالتالي: 1 من أجل ضمان تدفق النفط من دول الخليج، فإن واشنطن يجب أن تعزز الاستقرار الداخلي للمجتمعات الخليجية وحماية بنيتها التحتية وتأمين ممراتها المائية. ففيما يتعلق بالاستقرار المحلي تعتبر الدراسة أن القواعد الأمريكية تلعب دوراً محدوداً في هذا الصدد، بل والأكثر من ذلك أن وجود مثل هذه القواعد قد تمثل دافعاً علي إثارة العنف والانقلابات (الاضطرابات) الشعبية ضد تلك القواعد وضد الحكومات المستضيفة لها. وبناء علي ذلك يمكن للولايات المتحدة أن تحقق الاستقرار وتحول دون وقوع الانقلابات داخل المجتمعات الخليجية من خلال تخفيض القوات الأمريكية، والاعتماد علي الوسائل السياسية والاقتصادية في دعم الحكومات المنتجة للنفط وتشجيعها علي تنويع اقتصادياتها وتحقيق تقدم نحو الليبرالية الدستورية. وحسب الدراسة، فإن القوات الأمريكية تلعب كذلك دوراً محدوداً في حماية البنية التحتية النفطية في الدول الصديقة بالمنطقة، حيث أثبتت هجمات القاعدة الفاشلة التي استهدفت حقول "أبقيق" النفطية في السعودية أن الدول المنتجة للنفط أمنت بنيتها التحتية بالاعتماد علي نفسها وعن طريق تطبيق إجراءات أمنية شاملة وفعالة، بل أن البعض منها عمل علي تعزيز الاستراتيجيات الأمنية الراهنة، مثل السعودية التي قررت تأسيس قوة رد فعل سريعة وقوية قوامها نحو 35 ألف جندي من أجل تأمين وحماية مواردها. أما فيما يتعلق بالهجوم علي الممرات المائية، تشير الدراسة إلي أنه في حال استهدف تنظيم "القاعدة" أو إيران ناقلات البترول، فإن الرد العسكري الأمريكي سيكون بحريا، ومن ثم قد تشن الولاياتالمتحدة عملياتها في هذه الحالة بدون قواعدها الموجودة في الخليج. 2 لضمان عدم استحواذ أي فاعل دولي أو غير دولي في المنطقة علي أسلحة الدمار الشامل، فكما سبق الإشارة تمثل طهران الخطر الأكبر الذي تخشاه واشنطن في هذا الخصوص. ورغم أن طبيعة اتخاذ القرارات وصنع السياسات الإيرانية تجعل من الصعوبة بمكان تحديد وبشكل قاطع الدوافع وراء سعي إيران لتطوير برنامجها النووي، إلا أنه يمكن القول أن إحساس إيران بعدم الأمان النابع من تجربة حربها مع العراق في ثمانينيات القرن الفائت والغزو الأمريكي للعراق عام 2003 فضلاً عن تغير توجهات الإدارة الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، هذا الإحساس هو الذي يقف وراء محاولة الجمهورية الإسلامية للحصول علي الأسلحة النووية. ويحاول البعض تبرير زيادة الوجود العسكري الأمريكي في دول مجلس التعاون الخليجي عبر القول أن انتشار عدد ضخم من الجنود الأمريكيين يعد ضرورة إذا ما قررت الولاياتالمتحدة مهاجمة إيران لمنعها من الحصول علي الأسلحة النووية. وتنتقد الدراسة هذه المبررات وأصحاب تلك الحجج، مؤكدة أن التواجد العسكري الأمريكي في دول الخليج كاف وبقوات أكثر من المطلوبة لدعم وتنفيذ هذه العمليات العسكرية ضد طهران. ومن ثم فإن توسيع الانتشار العسكري الأمريكي في الدول الخليجية يصبح ذا غير أهمية. وإذا تطلب الأمر قوات إضافية، يمكن للولايات المتحدة إرسالها عبر أوروبا أو أي أماكن أخري. 3 أما عن المصلحة الثالثة والأخيرة المتعلقة بإيجاد منطقة لا تعاني أو تصدر التطرف، فتري الدراسة أن الوجود العسكري الأمريكي الضخم في الشرق الأوسط يتعارض مع هذه المصلحة، بل إنه يعتبر الدافع الرئيسي نحو انتشار الراديكالية والإرهاب، إلي جانب عوامل أخري أقل تأثيراً مثل الصراع العربي الإسرائيلي والطبيعة السلطوية للنظم الشرق أوسطية. وعلي الرغم من أن إحداث أي تخفيض في عدد القوات الأمريكية المنتشرة في المنطقة لن يؤدي إلي القضاء وبشكل فوري علي خطر الجماعات المتطرفة، إلا أن هذه الخطوة من شأنها التقليل من نزعة التطرف لدي الأجيال المستقبلية. عن "تقرير واشنطن"