لقد انتهي الزمن الذي كانت فيها الحكومات تدير المناجم وشركات المواصلات والمطارات وبالطبع المصانع والشركات. من أبرز الصحفيين الذين أعتز بهم وأحب القراءة لهم الأستاذ عباس الطرابيلي فهو نكهة طبيعية من التقاليد الصحفية والمهنية العريقة بالإضافة إلي وفديته الأصيلة التي أكن لها اعتزازا خاصا. ولفت نظري مقال نشره مؤخرا في صحيفة الوفد الغراء بعنوان "متي تبيعون القاهرة؟!" قال فيه إن حزب الوفد هو حزب ليبرالي، وهكذا يعمل وفق نظرية "دعه يعمل" أنه يري -والكلام للأستاذ- " أن القطاع العام في أكثره، كان كارثة علي الاقتصاد المصري، واستنزف ثروتها أكثر مما أعطي". وبعد هذا الموقف المبدئي القاطع لصالح الاقتصاد الحر بحيث يليق بحزب ليبرالي عريق عاد الأستاذ الطرابيلي لكي يؤكد "أن هناك ثوابت لا بد من المحافظة عليها، ملكا للدولة"، ويدخل في هذا النطاق مصانع الحديد والصلب في التبين "وكفي ما نعانيه من احتكار في هذه الصناعة الحيوية"، ومصانع الألمونيوم والسماد-كيما- في أسوان، كما يرفض جريمة بيع مصانع الأسمنت التي كانت مملوكة للشعب والتي كانت من عوامل الأمان في هذه السلعة الحيوية. وهكذا بعد سطور قليلة من التأكيد علي الموقف المبدئي بعبارات قاطعة نجد الأستاذ يعود عنها في كل الصناعات الأساسية ثم بعد ذلك يعرج منتقدا برنامج الخصخصة المصري، ومن بعدها يؤكد للتدليل علي ما يقول " أن كثيرا من دول أوروبا-الرأسمالية-ترفض بيع نوعية معينة من مصانعها.. مثل مناجم الفحم، ومصانع الحديد، بل وخطوط السكك الحديدية، وشركات الطيران.. وخطوط مترو الأنفاق.. لأن كل هذه المرافق هي سند الدولة ومظهر قوتها.. وبالتالي لا يمكن عرضها للبيع، مهما كانت المغريات، فالمصلحة العليا للوطن هي الأساس". مثل هذا المنطق من المزاوجة ما بين التأييد المبدئي لاقتصاد السوق ثم بعد ذلك التراجع عنه حينما يتحول الحديث من المبادئ إلي التطبيق يمثل ظاهرة شائعة جدا في الحياة الصحفية والإعلامية والسياسية المصرية. فبتأثير من العولمة والتجارب العالمية فإن الكل يؤكد علي رفضه لتحكم الدولة في عمليات الإنتاج والتوزيع، ولكن قبل أن ينتهي الكلام تبدأ المعارضة لكل إجراءات الحكومة في الخصخصة ثم بعد ذلك التأكيد من حيث المبدأ أيضا علي ضرورة بقاء كافة الصناعات الرئيسية في يد الحكومة. لاحظ هنا أن الحكومة المنتقدة في شرفها عند التعامل مع الخصخصة، وفي كفاءتها عند التعامل مع القطاع العام، هي ذاتها التي تتم المطالبة بأن تمضي في تحكمها في صناعات رئيسية سبق وأن سادت المعرفة أنها فشلت في إدارتها والاستفادة منها في تحقيق التنمية لأن الأستاذ عباس الطرابيلي يقول بنفسه وفي سياق مبدئي أن الدولة صانع سييء وتاجر أكثر سوءا. ولكن مثل هذا التناقض يتم حله مرة واحدة بالقول أن الدول المتقدمة في أوروبا- حيث أصل الرأسمالية- لا تزال تتحكم في مثل هذه الصناعات الرئيسية مثل مناجم الفحم وخطوط المواصلات وشركات الطيران. لاحظ هنا أنه في المثال الذي ضربة الأستاذ عباس الطرابيلي لا يوجد ما يدعو إلي القول أن الحكومة المصرية قد طرحت المناجم أو خطوط السكك الحديدية أو مترو الأنفاق أو شركات الطيران للبيع، وهي كذلك لم تطرح لا شركات الحديد والصلب ولا الألمونيوم للبيع باعتبارها صناعات إستراتيجية. وفيما عدا شركات الأسمنت، التي بقي منها قطاع عام، فإن كل الشركات والمؤسسات "الاستراتيجية" بقيت في كنف الدولة، ولم يسأل أحد عن مدة نجاحها مثل شركات الغزل والنسيج وأمثالها التي لا يوجد ما يدل علي نجاحها، ولم يقم الأستاذ الطرابيلي علي أي الأحوال بالقيام بمقارنة ما هو قطاع عام في الأسمنت أو غيره، وما هو قطاع خاص، والبحث عن قدراته الإنتاجية والتصديرية وظروف العمالة فيه. ولكن الأمر المهم هو أن الأستاذ عباس الطرابيلي، والجمهرة العظمي من الصحفيين المصريين لم يعرفوا ما الذي يجري في أوروبا حقا، حيث توجد الرأسمالية حقا. فالحقيقة أنه لم يعد أي من المجالات التي ذكرها الأستاذ الطرابيلي في كنف الدولة، فلا المناجم، ولا مصانع الحديد والصلب، ولا أي مما نسميه صناعات "إستراتيجية" بما فيها صناعة السلاح تقع في يد الدولة. وحتي وقت قريب كانت شركات "الطيران الوطنية" حاملة علم الدولة هي الباقية قطاعا عاما، فتوالي بيعها، وفي الوقت الراهن فإن آخر من هم علي طريق البيع هما شركتا الطيران الأسبانية _ "أيبريا"- والإيطالية _ ألتاليا. وقد زادت اليابان علي الجميع عندما خصخصت مكاتب البريد، بل أنها طرحت بعض وظائف وزارة الخارجية للخصخصة أيضا مثل المعونات الموجهة إلي المنظمات الدولية، والدول الفقيرة. وفي كل الأحوال إذا ما بقيت مؤسسة عامة واحدة، فإنها لا تكون عامة بمعني التحكم الحكومي فيها، وإنما يكون لها استقلالية تامة عن الحكومة. لقد انتهي الزمن الذي كانت فيها الحكومات تدير المناجم وشركات المواصلات والمطارات وبالطبع المصانع والشركات. ومع أن ذلك حادث في العالم أجمع فإن هناك إصرارا علي الاعتقاد أن مصر تفعل ما لم يفعله غيرها، ليس فقط من الأستاذ عباس الطرابيلي بل أيضا من غالبية ساحقة من المصريين تردد ما قاله وتتساءل عن اليوم الذي يتم فيه بيع "القاهرة". المدهش في الموضوع أنه لا يوجد تقرير دولي واحد يعتبر مصر من دول اقتصاد السوق، أو دول القطاع الخاص، أو الحرية الاقتصادية بأي معني. ومنذ أيام أصدر مركز الدراسات والبحوث السياسية في جامعة القاهرة تقريرا بعنوان "مصر في التقارير الدولية" فحصت فيه مكانة مصر في 93 تقريرا دوريا صدرت عن الأممالمتحدة والمنظمات التابعة لها، والولايات المتحدة سواء كانت رسمية أو غير رسمية، والمنظمات الدولية غير الحكومية، ومراكز البحوث شبه المستقلة، وجهات أخري صعب تصنيفها. وبدون الدخول في كثير من تفاصيل هذه التقارير، فإنه فيما يتعلق بموضوع الحرية الاقتصادية واقتصاد السوق فإن مصر بالمقاييس العالمية لا تزال تصنف ضمن الدول ذات الاقتصاد المقيد الذي لا علاقة له بمسألة السوق الحرة. ففي تقرير مؤسسة هيرتيج حول مؤشر الحرية الاقتصادية فإن مصر تحتل الترتيب 127 من حيث الحرية الاقتصادية من بين 157 دولة شملها التقرير. وفي تقرير الحرية الاقتصادية في العالم الصادر عن معهد فريزر في كندا احتلت مصر المركز 80 من بين 130 دولة حسب المؤشر الذي وضعه التقرير للحرية الاقتصادية. وبالنسبة لتقرير " أنشطة الأعمال" الصادر عن البنك الدولي حصلت علي المكان 165 من 175 دولة في عام 2007، ورغم تقدمها الكبير في تقرير عام 2008 إلي المكانة فإنها كانت في الترتيب 110 . وفي تقرير التنافسية العالمية كانت مصر في المكان 63 من 125 دولة. وفي تقرير المعلومات كانت مصر في المكان 91 من بين 181 دولة. كل هذه التقارير لا تنكر أن مصر حققت تقدما خلال الأعوام الثلاثة الماضية، ولكنها كلها تؤكد علي أن مصر لا تتقدم بالقدر الذي تتقدم به دول العالم الأخري, وأنها وفقا للمعايير العالمية لاقتصاد السوق والحريات الاقتصادية لا تزال تتحرك ببطء السلحفاة. المدهش في كل ما سبق أنه معلوم بالنسبة للنخبة المصرية التي لا تكف عن السخط علي الحكومة وفسادها، ومع ذلك فإنها ذات النخبة التي تريد أن تسلم كل المؤسسات والهيئات والشركات للحكومة أو تبقيها في يدها مهما كان السجل واضحا وناصعا أن الحكومة بالفعل كما قال الأستاذ عباس الطرابيلي أنها أسوأ صانع وتاجر!!.