مضت خمس سنوات علي الغزو الأمريكي للعراق؛ وفي أمريكا فإنهم يعيدون تقييم الموقف بالنسبة لقرار الحرب وعما إذا كان صائبا أو خاطئا؛ وفي أوروبا هناك عملية مشابهة مضافا إليها ضرورة العمل علي التعامل مع نتائج الغزو؛ وفي العراق فإن الدولة لا تزال تحاول لملمة أطرافها وتبحث عما إذا كان لهذا الليل آخر؛ وفي إيران فإن هناك من يحاول التأكد من استغلال كل الفرص السانحة. وفي العالم العربي لم تجر أبدا عملية تقييم حقيقية، ومن الصعب أن تجد سياسة عربية مستقرة إزاء العراق، وفي أغلب الأحوال فإن الموضوع كله بقي مختلطا بمشاعر حارة وحارقة تجري في اتجاهات شتي. وكل ذلك رغم أن العالم العربي _ ومصر خاصة _ هم الأكثر حاجة لتقييم الموقف لسببين: أولا أن الحرب لا تزال مستمرة فلم تنته بعد ولا تزال الأعمال المسلحة تجري علي جبهات متعددة والخسائر تتفاقم كل يوم والنتائج واسعة الأبعاد من أول التوازن الاستراتيجي في المنطقة وحتي الانتخابات الأمريكية؛ وثانيا أن الحرب غيرت المنطقة كلها من حيث التوازنات الاستراتيجية ولن يعود الشرق الأوسط بعدا كما كان قبلها، وباختصار فإن البيئة الإقليمية طرأ عليها التغيير وتحتاج السياسة معها إلي إعادة التكيف والتلاؤم مع أوضاع صعبة. ولا يمكن إخراج الحرب أبدا عن سياقها خاصة لو كان هذا السياق لا يزال مستمرا، وسياق الحرب الأمريكية في العراق كان عالم ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وهو عالم أعاد تشكيل القيادة الأمريكية وفكرها في اتجاهات عالمية خطرة. صحيح أن المحافظين الجدد جاءوا إلي السلطة قبل الأحداث؛ ولكن الأحداث هي التي أعطتهم الجرأة لتطبيق الأفكار علي النحو الذي جري، ولولاها لما زادت إدارة بوش الابن عن إدارة ريجان قبل عقدين. وعلي أي الأحوال فلازال عالم ما بعد ضرب نيويورك وواشنطن ممتدا في الزمن باستمرار العمليات الإرهابية وانتشار شرائط أسامة بن لادن، وممتدا في المكان بالانتشار الجغرافي للعمليات الإرهابية. مثل هذا العالم هو الذي أعطي لعمليات "المقاومة" في العراق وفلسطين معني مختلفا، وهو الذي جعل السعي الإيراني لامتلاك قدرات نووية يختلف جذريا عن حصول الهند وباكستان علي القنابل الذرية في عام 1998. لقد تغير العالم والشرق الأوسط بعد الحادي عشر من سبتمبر ولم يعد أبدا كما كان، وكانت حرب العراق واحدة من نتائجه عندما أرادت أمريكا وحلفاؤها في العرب استعادة حالة من الردع كان لها قواعدها في زمن الحرب الباردة ولكن قواعدها لم تعد صالحها في عالم يقوم علي العولمة. ولكن الحرب بدورها خلقت حالة خطرة من الفراغ الاستراتيجي نتيجة اختفاء العراق من معادلة القوة في المنطقة من ناحية، وخلق استمرار العنف فيها فراغا كبيرا يستدعي قوي كثيرة للاستفادة منه. وكان ذلك ما حدث فرغم التواجد الأمريكي تدخلت إيران بقوة هائلة تعددت أشكالها من الروابط الدينية والعرقية وحتي الاستخدام الكثيف لأجهزة المخابرات والإمداد بالسلاح. ورغم تواجد كليهما- الولاياتالمتحدةوإيران- فقد وجدت تركيا أنه من الضروري لها التدخل العسكري المباشر لكي تمنع حزب العمال الكردستاني من الحركة في الشمال العراقي. والحقيقة فإن حزب العمال الكردستاني لم يكن وحده علي الساحة العراقية الخالية من كل عناصر القوة الذاتية، وإنما جاء معه كل أشكال المقاومة والإرهاب المتاحة في العالم والتي وجدت في العراق الساحة الملائمة لتحقيق أهدافها السياسية وأحلامها الأيديولوجية أيضا. كل ذلك كان يمثل حقائق القوة الجديدة في المنطقة، فقد كانت النتيجة المباشرة للغياب العراقي هي تصاعد قوة إيران وتركيا وإسرائيل والحركات الإرهابية وتعرض القوة المعتدلة في المنطقة لاختبارات شتي من كل هذه القوي. وربما كانت إيران هي المستفيد الأعظم بين كل المستفيدين، بل إنه يمكن القول إن إيران انتصرت أخيرا في الحرب العراقية _ الإيرانية التي وضع لها الخميني هدفا في ذلك الوقت يقول بضرورة الإطاحة بصدام حسين ونظامه، والبقية بعد ذلك لن تترك المثير للخيال. وفي واحدة من أهم سخريات التاريخ والقدر أن الهدف الإيراني تحقق علي اليد الأمريكية رغم ما بينهما من عداء وخصومة. وهكذا ساء الموقف الاستراتيجي العربي مرتين: مرة لأنه فقد العراق ليس باعتبارها حليفا مهما بقدر كونها واحدة من التوازنات الأساسية في المنطقة التي لا بد من حسابها بالنسبة لكل الأطراف؛ ومرة لأن إيران تصاعدت قوتها بشكل نسبي ومطلق أيضا. وهذا الوضع سبب أخطارا مضاعفة علي الوضع العربي، فالعراق نفسه أصبح ساحة يانعة للتيارات الإرهابية والراديكالية، وهذه التيارات علي أية حال حصلت علي دفعة كبيرة نتيجة الغزو الأمريكي للعراق وحتي اكتسبت بعضا من الشرعية كانت علي استعداد لاستخدامها ضد البلاد العربية بنفس قدر استعدادها لاستخدامها ضد خصومها. أما إيران فقد أصبحت مصدرا للتهديد من خلال قيادة جديدة أيديولوجية متهورة وعلي استعداد للدخول في مشاكسات دامية مع أطراف دولية منها الولاياتالمتحدة ؛ ومن خلال تصاعد التسليح الإيراني الذي ربما يكون فيه التوجه النووي هو الأقل خطورة لأن العالم كله يراقبه ويسعي للحد منه. ولكن بالنسبة للعالم العربي فإن التطور السريع والدرامي للتسليح الإيراني في مجال الصواريخ والسلاح البحري خاصة القوارب الصاروخية السريعة، وكلاهما يجعل العواصم العربية الخليجية تحت التهديد المباشر، ومعها مضيق هرمز. ولكن أخطر الأخطار الإيرانية فهو احتمالات نشوب صراع مسلح بين إيرانوالولاياتالمتحدة تدفع الأطراف العربية القريبة والبعيدة ثمنه؛ ومعها زيادة الجرأة الإيرانية في ابتزاز أطراف خليجية ضعيفة، أو التدخل المباشر في الأزمات الفلسطينية واللبنانية. وكما فعلت كل القوي الراديكالية قبلها فإن إيران عمدت إلي استخدام الورقة الإسرائيلية لمد نفوذها السياسي والاستراتيجي في المنطقة؛ وكما فعل صدام حسين من قبل حينما ضرب إسرائيل والسعودية بالصواريخ في نفس الوقت فإن إيران تستخدم آلتها الدعائية الجبارة في ضرب إسرائيل من ناحية والدول العربية من ناحية أخري. وهو وضع نجحت إسرائيل في استغلاله عندما جمعت أكبر تحالف دولي حولها لم تحصل عليه منذ إنشاء الدولة العبرية. وبشكل من الأشكال فإن الشلل السياسي الحادث في لبنان والسلطة الفلسطينية أعطي إسرائيل مساحة كبيرة للحركة والاستيطان وإرباك الدول العربية الرئيسية وجعلها دوما في حالة لهاث من أجل رد الفعل مع أوضاع معقدة. الموقف هكذا صعب علي العالم العربي وعلي مصر خاصة أن الأحداث متلاحقة وسريعة وتخلق مواقف يصعب التنبؤ بها ولكنها عنيفة في معظم الأحوال. ومن الجائز أن تحاول مصر العزلة عن كل ذلك، أو تحاول بناء شبكات جديدة من التحالفات، أو تؤكد علي التحالفات القديمة وتجعلها أكثر فعالية وجرأة، ولكن أيا من هذه الخيارات له ثمنه، وربما كان أصعب ما فيها أن أيا منها لم يأخذ ما يستحقه من النقاش العام !!.