يحاول المصريون الآن الدخول إلي عصر الطاقة النووية، بعد أن قضوا تاريخهم الطويل منذ حقبة الإنسان البدائي في استخدام الطاقة العضلية للإنسان والدواب، ثم طاقة الرياح في البحار والأنهار، ثم مع العالم في القرنين التاسع عشر والعشرين عصر الفحم والنفط والغاز الطبيعي. ويأتي هذا التحول إلي الطاقة النووية بالنسبة لمصر مُتأخرا عن العالم بسنوات وعقود طويلة، لكنه مع ذلك يجذب انتباه الدول الأخري بصورة مدهشة، فنري ما نشهده الآن من عشرات الوفود والشخصيات السياسية والصناعية والاقتصادية تأتي إلي مصر تستفسر عن نواياها وخططها المستقبلية في هذا المجال الجديد. السبب في هذا الاهتمام يرجع إلي أن الطاقة النووية لها مجالها المختلف من حيث الاستخدام ونوعية الظروف المحيطة بها مقارنة بأنماط الطاقة الأخري. فمن الممكن استخدام الطاقة النووية في توليد الكهرباء، كما يمكن استغلالها في صناعة سلاح نووي كما فعلت دول أخري في منطقتنا ومن بينها إسرائيل. ويضاف إلي ذلك أن عوامل الأمان في تشغيل مفاعلات الطاقة النووية أكثر تشددا بكثير من محطات الطاقة التقليدية. فحادثة واحدة كبيرة لمفاعل نووي يمكن أن تُلغي من الخريطة منطقة شاسعة بوصفها غير صالحة لحياة الإنسان والحيوان والنبات لحقب طويلة قادمة. كما يمكن للإشعاع الناتج عن الكارثة السفر بفعل الرياح والمياه إلي مناطق أخري بعيدة فيصيبها بأضرار جسيمة أبدية غير قابلة للإصلاح. ومن حسن الحظ أن مصر جددت اهتمامها بالطاقة النووية في نفس الوقت الذي جدد فيه العالم اهتمامه بها بعد جفاء طويل منذ حادثة تشرنوبيل الشهيرة في 26 إبريل 1986. ففي الولاياتالمتحدة وحدها الآن ما يربوا علي 30 طلبا مقدما لبناء مفاعلات نووية جديدة لتوليد الطاقة بجانب 150 مفاعلا آخر يجري التخطيط لبنائها علي مستوي العالم، بالإضافة إلي عدد صغير من المفاعلات اثنين منها في الولاياتالمتحدة يجري إنشاؤها الآن. ووراء هذا الاهتمام تصاعد أزمة الطاقة علي المستوي العالمي، وارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي إلي مستويات قياسية في فترة قصيرة لأسباب بعضها سياسي، وأيضا لدخول شرائح كبيرة من البشر في الصين والهند ودول أخري إلي سوق الطاقة نتيجة الطفرة الاقتصادية والنمو البشري في هذه البلاد. ولقد مر العالم بأزمة مشابهة في أعقاب حرب 1973 نتيجة الحظر العربي لتصدير النفط وما نتج عنه من قفزة كبيرة في أسعار النفط. ومن يومها انتهي عصر النفط الرخيص، لكن ما يواجهه العالم الآن يعود في الأساس إلي زيادة الطلب بسبب معدلات النمو المتصاعد في العديد من بلاد العالم. ويعمل علي مستوي العالم حاليا 443 مفاعلا لتوليد الكهرباء من الطاقة النووية تُنتج حوالي 368 جيجاوات- ساعة ويقع معظمها في الولاياتالمتحدة وأوروبا (حوالي 80%)، وفي روسيا وبعض دول أوروبا الشرقية (حوالي 10%)، والباقي مُنتشر في بعض الدول النامية مثل الصين والهند. وتتولي هذه المفاعلات توليد 22.4% من الطاقة الكهربية في الولاياتالمتحدة وأوروبا، و17% في روسيا ودول أوروبا الشرقية، و2.1% في الدول الأخري النامية. وبشكل عام ينتج 15% فقط من كهرباء العالم من مفاعلات نووية، والباقي يتم إنتاجه باستخدام الغاز الطبيعي (20%) والنفط (7%)، والباقي بواسطة الفحم (أغلبية إنتاج الكهرباء علي مستوي العالم من طاقة الفحم). وخلال السنوات الماضية منذ 1996، تم تشغيل حوالي 40 مفاعلا لتوليد الطاقة الكهربية بمعدل 4 في العام، كما تم إغلاق 30 مفاعلا في نفس الفترة. وغالبية المفاعلات الجديدة تحت الإنشاء _ حوالي 27 مفاعلاً- يجري بناء 18 مفاعلاً منها في آسيا، و 5 في أوروبا، ومفاعل واحد في الشرق الأوسط (إيران). ومن بين الدول التي بدأت التفكير في بناء مفاعلات نووية للطاقة: مصر وإندونيسيا وإيران وإسرائيل وماليزيا وفيتنام وبيلاروسيا وليبيا والأردن ونيجيريا وقطر والمملكة العربية السعودية وسوريا وتايلاند وتركيا واليمن. قد يبدو المُفاعل النووي من الخارج مهيبا لكن سره الأكبر يكمن في شحنة الوقود النووي الموجودة داخله والتي عن طريقها تتولد الطاقة الحرارية اللازمة لتشغيل توربينات توليد الكهرباء. إن كيفية الحصول علي هذه الشحنة أو تصنيعها في داخل الدولة يتصل بها معضلات تكنولوجية وسياسية كبيرة. ونتيجة للقيود الموضوعة علي إنتاج هذه الشحنة أو بيعها وزيادة الطلب عليها اتجه عدد من الدول إلي امتلاك قدرات تصنيع الوقود النووي المطلوب للمفاعلات داخلها مما أثار قلقا واسعا كما حدث مع إيران خوفا من انتشار هذه التكنولوجية وإمكانية الانحراف بها لإنتاج أسلحة نووية. يبدأ إنتاج الوقود النووي بالتنقيب عن "اليورانيوم" وهو عنصر يقبع قرب قاع جدول "ماندليف" الشهير - الذي يضم كل عناصر مادة الكون - وسط باقي العناصر الديناصورية الثقيلة الأخري ذات الذرات المتململة القلقة والمشعة. وتُعتبر ذرة اليورانيوم أثقل ذرة لها وفرة معقولة علي الأرض، لا يسبقها إلا النبتونيوم والبلوتونيوم وهما من العناصر النادرة. ومن بين الأسباب التي أغرت العلماء باستخدام اليورانيوم في تصنيع الوقود النووي أنه لا يعتبر عنصرا نادرا حيث تصل نسبته في القشرة الأرضية إلي 0.0004 ، أي أن كل عشرة آلاف طن من القشرة الأرضية يحتوي علي أربعة أطنان من اليورانيوم وهي نسبة عالية مقارنة بكثير من العناصر الأخري، فهو علي سبيل المثال أكثر وجودا في الطبيعة من الفضة. ويوجد خام اليورانيوم في الطبيعة كخليط من ثلاث نظائر مشعة: يورانيوم-238 ونسبته في خام اليورانيوم 99.276 %، ويورانيوم-235 ونسبته 0.718 %، ويورانيوم-234 ونسبته 0.0056 %. ومن أجل أن يستخدم اليورانيوم كوقود للمفاعلات النووية يتم "تخصيبه" بزيادة تركيز النظائر "القابلة للانشطار" فيه وهي اليورانيوم-235 و 234 علي حساب اليورانيوم-238. وعملية "انشطار" ذرات اليورانيوم داخل المفاعل هي المولدة للطاقة، وتنتج من قذف شحنة الوقود بالنيترونات، أما عملية الوصول إلي نسبة معينة للنظائر 235 و 234 في اليورانيوم الخام فيطلق عليها عملية "التخصيب"، وهي تكنولوجيا معقدة تسمح لمن يمتلكها بتوفير الوقود النووي للمفاعلات إذا وصل بنسبة هذه النظائر إلي 3-5%، أما إذا وصل التركيز إلي 95% فتصلح هذه الشحنة من اليورانيوم لإنتاج رأس نووية عسكرية. ويحتاج مفاعل قدرته 1000 ميجاوات إلي حوالي 350 طن من اليورانيوم المخصب بنسبة من 3-5%. وينتج العالم من هذه المادة سنويا 5000 طن (إنتاج 2004). ومن المتوقع أن يقل إنتاج اليورانيوم المخصب عن الطلب بداية من 2010، ويعني ذلك أن أسعاره سوف ترتفع باستمرار. ويتولي تحديد أسعار اليورانيوم المخصب عدد قليل من المنظمات الخاصة الدولية والمكاتب الاستشارية. وعادة ما يتم تجهيز اليورانيوم خارج البلاد التي تستخدمه. ويمثل موضوع الإمداد باليورانيوم المخصب عقدة أساسية عند إنشاء مفاعل الطاقة النووية، ويصل سعر الكيلوجرام الواحد في 2007 إلي حوالي 170 دولار. وتستخدم 90% من مفاعلات العالم اليورانيوم في توليد الطاقة بعد تخصيبه، وتتواجد وحدات التخصيب في الولاياتالمتحدةوروسيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وهولندا واليابان والصين والبرازيل وباكستان. من الواضح أن مصر سوف تحتاج إلي قدرات وخبرات وصداقات وتحالفات جديدة عند انتقالها من عصر النفط إلي العصر النووي. هناك الوكالة الدولية ودورها في الدعم الفني والسياسي وفي إكساب شرعية دولية لهذا التحول. هناك أيضا حقيقة أننا لن نأخذ شيئا بدون مقابل، فمن المتوقع أن يطلب منا التوقيع علي بروتوكول التفتيش الإضافي، أو التوقيع والتصديق علي اتفاقية الحظر الشامل للتجارب النووية. سوف يطرح علي مصر علاقات تعاون علي المستوي الثنائي والجماعي. هناك أيضا عناصر التكلفة والإدارة والأمان والتدريب والبحوث والتطور التكنولوجي السريع بالنسبة لمشروع سوف يستغرق وقتا طويلا.