أساتذة الاجتماع اكتشفوا أن الأتوبيسات وخطوط المترو قد تحولت الي منتديات لفضفضة الفقراء والمطحونين والمظلومين والمغلوبين علي أمرهم. وبعضهم بالفعل ركب وسائل النقل تلك وأجري ابحاثه دون ان يتحدث مع احد.. كل مافعله انه اطلق الحرية لاذنيه كي تتجول في المقاعد والطرقات وترصد كل مايدور فيها، وفي النهاية قام بتحليل حصيلة ماجمعه فماذا وجد؟ اكتشف ان النبض الحقيقي للشارع لايقاس الا من خلالها فالزحام "والغلب" والهم المشترك كلها اشياء تحفز وتولد الرغبة للكلام والفضفضة حتي تنزاح جبال الهم عن القلوب "المعبية والمليانة" والا انفجرت. ومافعله اساتذة الاجتماع لكي يرصدوا نبض الناس وهمومهم، فعله احد المحررين في احد مواقع "النت" حيث استقل احد الاتوبيسات وسجل علي الطبيعة كلام الناس وكتبه في صفحات الموقع وفتح باب التعليقات عليه، فكانت النتيجة جدلا مهماً يعكس بالضبط واقع حياة الناس. وجربت ان أفعل مثله وأرصد الواقع وأتخيله من خلال أحد الأتوبيسات.. هذا الواقع كما حللته انا قد يكون حقيقيا او مفتعلا او منفعلا.. او مغلوطا.. او مشوها او مزيفا.. نختلف ونتفق علي وصفه، المهم انه في النهاية واقع.. وتعالوا نري بعضا مما فضفض به الناس: الأتوبيس ينتظر اكثر من ساعة في اشارة الاسعاف بشارع رمسيس.. بالتحديد قبل ناصية شارع عبد الخالق ثروت حيث كل البؤر الملتهبة قد تجمعت في هذا المكان.. مظاهرات للصحفيين.. اعتصامات للقضاة.. احتجاجات للمحامين.. وأمن مركزي يطوق المكان كله، والأتوبيس لايتحرك خصوصا وان هناك وقفة احتجاجية في نقابة المحامين ضد زيارة الرئيس بوش لمصر والتي تستغرق أربع ساعات فقط. وطبعا الناس في الأتوبيس انتهزوها فرصة وهات ياكلام في السياسة.. احدهم يقول طبعا انتم تفهمون الفولة وتعرفون ان زيارته للمنطقة والكعب الدائر الذي قام به ليس لوجه الله، وانما هو يرتب ويحشد ضد ايران.. يريد ان يكسر شوكتها حتي يصبح ظهرنا عاريا، ويظل الملعب لإسرائيل وحدها تخططه وتمهده لمصالحها ومصالح امريكا، ونحن كالعادة نأكل الطعم. وهنا يرد آخر: بمزاجنا سيحدث وبالقوة سيحدث، فلماذا لانستفيد بالطعم طالما اننا لن نستطيع الوقوف ضد الطوفان وطالما اننا لانقوي ان نقول للغولة عينك حمرا. هنا صاح احد الواقفين في مؤخرة الاتوبيس قائلا: كله كوم وتقرير المستشار جودت الملط رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات في مجلس الشعب كوم تاني.. الرجل مسح الحكومة "وشنشلها" وفضح الفساد وكشف المستور، والحكومة والوزراء المؤيدون والمناصرون لها علي طول الخط لم يستطيعوا ان يردوا او يصدوا مع الرجل، فقد كان فاردا قلوعه وكعبه عالياً علي الكل.. وكل حاجة عنده مكتوبة وعليها تقرير وأرقام مضبوطة. هنا أشاح راكب متحمس بيده وهو يقول: ياجماعة أرجوكم لاتحركوا مواجعنا ولاتخرطوا البصل علي قلوبنا.. الفساد عندنا بحوره واسعة، والحكومة لاتريد ان تأخذ منه "موقف" فتقتلعه من جذوره.. فنحن لانعرف حتي الآن ماهو السر في تأخير صدور تقرير صلاحية المياه الطبيعية المسماة بالمعدنية حتي الآن وماهي الشركات المدانة التي ظلت طوال السنوات الماضية تعبيء لنا "الميه في قزايز" من الحنفية.. وماهي الشركات الاخري التي جعلتنا نشرب المياه من آبار ملوثة بالبكتيريا، والطريف ان المسئولين عن تلك الشركات وكنوع من الاستهزاء بنا راحوا يقنعوننا بأن البكتيريا الموجودة في مياههم حميدة! وراح راكب آخر يذكره بتقرير الاحتكار وكشف المحتكرين الذي لم يصدر، لأنه يضم اسماء كبيرة، والاسماء الكبيرة محمية من اسماء أكبر! وراح صاحبنا يزفر زفرة حارقة جعلت صدره يغلي رغم برودة جو طوبة، وهو يقول: هو فيه ايه عدل؟!: باعوا اراضي البلد وسقعوها.. وباعوا جبل المقطم المتر ب 90 جنيها والشركة باعته ب 6 آلاف جنيه.. والخراب قادم.. جبل المقطم سوف يقع بمن فيه لانه سيقوم فوق جبال الصرف.. ولو دققنا سنجد ان كل وزارة فيها بلاوي.. تطعيمات انفلونزا الطيور مضروبة، والفيروس سوف يتحور بسبب مزارع الخنازير... وتوظيف الاموال عاد من جديد والناس يبدو وكأنهم اصبحوا يأتمنون النصابين ويثقون فيهم اكثر من الحكومة. فجأة تحول الاتوبيس كله الي مكلمة: كله يشكو همه الي كله.. وفي دقائق تم فتح عشرات الملفات الساخنة بدءا من الاسعار والبنزين ومصاريف المدارس والدروس الخصوصية واختفاء 16 مليار جنيه من حصيلة الخصخصة. لكن الفضفضة والطنطنة والزن علي أُذن الحكومة امر من السحر، لذا فإن صدرها أصبح يضيق من هذه الفضفضات رغم انها في اتوبيس مغلق وليس امام نقابة او جامعة او برلمان فالشرارة تبدأ بفضفضة وبعدها احتجاج ثم اعتصام ثم مظاهرة، ولذلك ربما اختصرت الطريق قريبا وعلقت يافطة فوق المركبات تقول: "المفضفضون يمتنعون" ويبدو ان الناس فهمت اللعبة وراحت تمسك الحكومة من يدها العليلة لذلك رفعوا شعار: "عاوز حقك تظاهر"، ولذلك كله الآن يتظاهر ويعتصم المعلمون.. العمال.. وحتي الممرضات ايضا عرفن السر، فتظاهرت 150 ممرضة هذا الاسبوع في مستشفي سرس الليان حيث رأين ان الحقوق لاتؤخذ الا غصبا. وفي القريب العاجل ربما وجدنا طوائف كثيرة تلجأ الي هذا الحل فالأطباء الآن يُعدون العدة، وغيرهم وغيرهم في الطريق. ومع ان الحكومة يمكن ان تختصر الطريق وتمنع المظاهرات والاضرابات والاحتجاجات لو أنها من البداية كلفت خاطرها واستمعت الي فضفضة الناس.. في الاتوبيس والمترو والميكروباص لكنها لاتريد ان تسمع ولا تري.. فقط تحب ان تتكلم وتطلق الوعود والتصريحات والتأكيد علي ان كل شيء سيصبح تمام التمام، لكن الناس ردوا عليها بنفس الطريقة: ودن من طين وودن من عجين! فضفضة قليلة تمنع بلاوي ومصائب كثيرة. ولكن من يري ومن يسمع؟