تعد أوقاف القدس واحدة من أهم القضايا التي لم يتم طرحها إلي الآن علي مائدة المفاوضات العربية الإسرائيلية، ذلك لأن طرحها يفند المزاعم اليهودية حول الوجود اليهودي في القدس، تمتلك الأوقاف الإسلامية طبقا لأحدث التقديرات 75 بالمئة من أراضي القدس القديمة، بينما لا تتعدي أملاك اليهود بها 1 بالمئة، والباقي مملوك للمسيحيين وللأفراد. وأوقاف المسلمين هذه استولت إسرائيل علي قسم منها بعد حرب 1967 م. إما بالقوة الجبرية أو بالشراء من بعض الأفراد الذين كانوا يملكون حق الانتفاع بالأوقاف نظير ريع إما سنوي أو شهري يدفع لإدارة الأوقاف بالمدينة. تكتسب قضية استيلاء اليهود علي بعض أوقاف القدس بعدا إسلاميا إذ أن حكم أوقاف القدس حكما عاما بأنه لايجوز بيعها أو التنازل عنها للغير. فضلا عن أن بعض هذه الأوقاف ملك لمصر حيث أوقفها مصريون علي الحرم القدسي الشريف أو علي رعاية العلم والعلماء في القدس. والبعض الآخر من أوقاف القدس ملك لتركيا حيث أوقفها السلاطين العثمانيون علي منشآت خيرية بالمدينة وكذلك علي الحرم القدسي. تنقسم الأوقاف الإسلامية بالمدينة إلي منشآت خيرية وأخري اقتصادية تدر عائدا يتم الصرف منه علي المنشآت الخيرية، ولهذه المنشآت حجج ملكية تثبت ملكيتها للمسلمين، توجد هذه الحجج مثبتة في سجلات المحكمة الشرعية في القدس وكذلك في سجلات المحاكم الشرعية في القاهرة واسطنبول. وفي عام 1974 عثرت أمل أبو الحاج نائبة مدير المتحف الإسلامي بالقدس علي 354 وثيقة مملوكية خاصة بالقدس تعد ثروة لاتقدر بثمن. ولإدراك اليهود قيمة الوثائق في إثبات الحقوق العربية والإسلامية في المدينة المقدسة فقد سعوا إلي سرقة بعض وثائق المدينة، ففي عصر يوم الاثنين الثامن عشر من نوفمبر عام 1991 اقتحمت تجريدة من القوات الإسرائيلية المحكمة الشرعية بالمدينة لتسرق وثائق المدينة التي تثبت ملكية أراضيها وأوقافها للمسلمين. خاصة إذا ما علمنا أن لليهود تاريخا سيئا مع الوثائق منذ أن فشلوا في إثبات ملكية حائط البراق لهم، فقد دحضت الوثائق هذه المزاعم. تبدأ قصة هذا الفشل اليهودي في أعقاب الاضطرابات التي وقعت سنة 1929، انطلاقا من النزاع الاسلامي اليهودي حول حائط البراق، حيث استفز اليهود المسلمين بمحاولتهم وضع يدهم بصورة نهائية علي منطقة الحائط التي تعد أحد حوائط الحرم القدسي. أرسلت بريطانيا لجنة شو بإرسال لجنة خاصة للتحقيق في موضوع محدد هو حقوق العرب واليهود في حائط البراق. وتقدمت الحكومة البريطانية إلي عصبة الأمم طالبة الموافقة علي تأليف لجنة لهذا الغرض. في 15 / 5 / 1930، وافق مجلس الأمن علي الأشخاص الذين رشحتهم بريطانيا لعضوية اللجنة، برئاسة لوفجرن وزير الشؤون الخارجية البريطاني السابق، وعضوية بارد نائب رئيس محكمة العدل في جنيف، وكمبن عضو البرلمان الهولندي. أجرت المحكمة تحقيقا نزيها وكاملا، استمعت فيه إلي حجج الطرفين (العرب واليهود ) ووقفت أمام الوثائق والأدلة التي تقدم بها كل منهما لدعم وجهة نظره. وأصدرت تقريرا شاملا تضمن وقائع التحقيق واستنتاجات اللجنة. وقد أكد التقرير بالحرف الواحد أنه ( للمسلمين وحدهم تعود ملكية الحائط الغربي، ولهم وحدهم الحق العيني فيه لكونه يؤلف جزءا لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف التي هي من أملاك الوقف. وللمسلمين أيضا تعود ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط وأمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة المقابلة للحائط لكونه موقوفا حسب أحكام الشرع الإسلامي لجهات البر والخير ) هكذا كانت أولي نتائج استخدام المسلمين سلاح الوثائق الوقفية ضد اليهود. تتوالي الأيام والسنون بعد هذه الحادثة وفي أعقاب هزيمة 1967 م يضع اليهود يدهم بالكامل علي حائط البراق بدعوي أنه حائط المبكي وأنه الحائط الوحيد الذي بقي من هيكل سليمان الذي أعاد بناؤه هيرود الحاكم الروماني للمدينة. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل شرعوا في هدم حارة المغاربة. علما بأن الحارة وكل البنايات التي كانت بها من أوقاف المسلمين بالمدينة ويبلغ عددها 153. هدمت الحارة لكي تتحول لساحة تسع مائتي ألف يهودي. وضاع الوقف الإسلامي في هذه المنطقة والمنشآت الدينية بها وخاصة زاوية أبي مدين غوث أبرز آثارها والتي وقف عليها العديد من المنشآت بالحارة. نستطيع الآن بعد سنوات من البحث والدراسة أن نتعرف علي ابرز المباني الموقوفة في القدس ووقفيتها ومنها : الزاوية الفخرية : كانت هذه الزاوية تقع إلي الغرب من ساحة الحرم القدسي، وهي تعود إلي العصر المملوكي، ولها كشف بحصر أوقافها التي خصص ريعها للصرف عليها، يعود هذا الكشف إلي عام 1903 م، وبيانه كالتالي : أرض إلي جوار تربة محلة في قدس شريف حاصل 200. أرض تعرف بقاع الوزير تابع تقسيم قبليالقدس حاصل 250. أرض تعرف بعمران الفخرية تابع تقسيم قبليالقدس حاصل 2000. أرض جوار مذكورة حاصل 150. سوق الفخرية بالقدس. هذه بعض أوقاف الفخرية التي فصلتها وحددتها وثيقة وقفها. فماذا فعلت إسرائيل بها وهي أثر إسلامي، لقد قامت بالإستيلاء عليها، ثم هدمتها في عام 1969 م. لكي تزال من الوجود كرمز تراثي شاهد علي حقيقة هوية المدينة المقدسة. المدرسة التنكزية : شيد هذه المدرسة الأمير تنكز بغا الناصري، لتدريس المذاهب الأربعة، إستولت عليها القوات الإسرائيلية إلي الآن، وترفض الجلاء عنها. ولها أوقاف واسعة داخل القدس وخارجها. خانات القطانين : باب وسوق القطانين من أبرز الآثار الإسلامية المملوكية في القدس والمنطقة بالكامل من الأوقاف الإسلامية بالمدينة. وقد أنشأ الباب والسوق الأمير تنكز بغا لتكون وقفا علي المدرسة التنكزية وعلي الحرم القدسي الشريف، وكان السلطان الناصر محمد بن قلاوون قد جدد باب القطانين سنة سبع وثلاثين وسبعمائة فدل علي أنه موجود قبل هذا التاريخ، ويبلغ طول سوق القطانين مائة متر وعرضه عشرة أمتار، وعلي جانبيه حوانيت كانت معدة لبيع الأقمشة القطنية والحريرية التي كانت تحملها القوافل إلي القدس من الهند عن طريق البصرة وبغداد والموصل. ولكن أهمية هذة السوق تضاءلت بمرور الوقت. وسوق القطانين يضم العديد من الآثار منها خان الغادرية الذي كان موقوفا علي المدرسة الغادرية بالقدس. وتزخر سجلات المحكمة الشرعية بالقدس بكل التفاصيل الخاصة بكل التصرفات المتعلقة بالخان وريعه والمنصرف منه علي المدرسة وترميمها. خان تنكز : يقع هذا الخان في وسط سوق القطانين، بناه تنكز بغا الناصري ليكون وقفا علي المدرسة التنكزية في القدس، ويحمل الخان العديد من النصوص التذكارية، والمبني حاليا من مباني الوقف الإسلامي ثلثاه وقف لآل الخالدي، والثلث الباقي للأوقاف الإسلامية. وقد طرح مشروع لتحويل الخان إلي متحف للقدس، ولكن هذا المشروع لم ينفذ، والخان يحتاج إلي مشروع عاجل لترميمه قبل أن يتعرض للاندثار. خان الشعارة : يقع هذا الخان في سوق الحصر. وهو يتألف من طابقين السفلي كان فيه مرابط للدواب وحوانيت كان يتاجر فيها المقدسيون، أما الطابق العلوي فكان به مساكن يقطن بها جماعة من آل الجاعوني، وبعد احتلال 1967 استولت السلطات الاسرائيلية علي الخان وأخرجت سكانه العرب واسكنت فيه عائلات يهودية، بالرغم من ملكية الأوقاف الاسلامية للخان. الحمامات : تزخر القدس بالعديد من الحمامات المملوكية والعثمانية ومن أبرزها، حمام الشفا، حمام العين، مستحم درج العين، حمام باب الأسباط، حمام السلطان، حمام الصخرة، حمام السيدة. والحمامات منشآت خيرية كانت تستخدم للتطهر والاستحمام وريعها يستخدم في الصرف علي المنشآت الدينية والتعليمية. الأسبلة : السبيل في اللغة هو الطريق، بمعني مجازي أو حقيقي. والسبيل في العمارة الاسلامية هو مكان لتقديم الماء للمارة يضم صهريج لخزن المياه في الطابق الأرضي وحجرة لتقديم المياه في الطابق الأول، كانت الأسبلة في القدس إما تشيد مستقلة أو ملحقة بالمنشآت الأخري. ومن أشهر أسبلة القدس سبيل باب الحبس، سبيل تنكز، سبيل القرمي، سبيل خان القرمي، سبيل قايتباي. والأسبلة المتبقية في القدس في حاجة عاجلة للترميم المعماري وإلا سوف تختفي خلال السنوات القادمة أو تنهار وتتحول إلي أنقاض لمباني أو آثار تاريخية كانت موجودة، وهذا ماتسعي إليه السلطات الإسرائيلية. المساجد : كانت المساجد تنتشر في القدس لأداء المسلمين بها الصلوات الخمس، ومن أشهرها مسجد عمر بن الخطاب، هذا المسجد أقيم في الموضع الذي صلي فيه عمر بن الخطاب في القدس، بعد تسلمه المدينة، وكان الخليفة عمر بن الخطاب قد رفض الصلاة في كنيسة القيامة حتي لا يقيم المسلمون مسجدا في المكان الذي يصلي فيه خليفتهم، احتراما من عمر أماكن العبادة الخاصة بالديانات الأخري بالمدينة وإقرارا منه بحرية العبادة في المدينة المقدسة من المسيحيين والمسلمين علي حد سواء. لقد عني المسلمون بهذا الجامع منذ إنشائه، فقد جددوا بناءه في سنة 589 ه / 1193 م، في العصر الأيوبي، وأعادوا بناء مئذنته في سنة 870 ه / 1465 م، في العصر المملوكي، وهي مئذنة مربعة الشكل جميلة التكوين. وهذا المسجد ذو رمزية سياسية عالية إذ أنه يمثل السياسة التي إتبعها المسلمون في المدينة تجاه الديانات الأخري، إلي جانب رمزيته كمكان صلي فيه فاتحو القدس من المسلمين. البيمارستان الصلاحي: وقد وقفه صلاح الدين علي كل أبناء القدس ليعالجوا فيه مجانا، ورتب فيه دروسا لتعليم الطب فيه، وقد تعرض البيمارستان إلي زلزال في القرن 9 ه / 15 م، ولم يتبق من البناء الأصلي للبيمارستان إلا جزءا بسيطا، وهو يستخدم حاليا كبازار. التكايا، أشهرها تكية خاصكي سلطان، التي شيدتها زوجة السلطان العثماني سليمان القانوني خرم المشهورة بروكسلانا، هذه التكية كانت مجمعا معماريا ضخما ملحق به منشآت عديدة منها مدرسة وأماكن لإقامة الصوفية وزوار القدس ومطبخ لإطعام نزلاء التكية وفقراء القدس. ولهذه التكية وقفية باللغة التركية مترجمة إلي اللغة العربية ضمن سجلات محكمة القدس الشرعية. إننا نستطيع من خلال وثائق القدس وآثارها المعمارية التي مازالت باقية إلي اليوم الإسلامية والمسيحية رسم صورة متكاملة للقدس في العصور المختلفة، وتحديد ملكية أراضيها خاصة ما يقع في ملكية الأوقاف منها. ومما يساعد علي ذلك أن الوقفيات وسجلات محكمة القدس الشرعية تحدد حدود كل منشأه وأبعادها والطرق التي تقع عليها ومكوناتها والاراضي التي وقفت عليها إن كانت منشأة دينية أو خيرية أو منشأة اقتصادية تدر ريعا. إن هذه الخريطة الطبوغرافية التاريخية ستساعد بلا أدني شك في استرداد الأراضي التي استولت عليها سلطات الاحتلال الإسرائيلي. سواء في القدس أو في باقي أراضي فلسطينالمحتلة. لقد فهم اليهود أهمية وثائق القدس فقاموا بدراستها لتخدم سياستهم تجاه المدينة المقدسة، وبالرغم من فهم الحاج أمين الحسيني لأهمية وثائق القدس في أثناء النزاع علي ملكية حائط البراق وذلك حين استعان بالمؤرخ القدير أسد رستم لتحقيق ملكية المسلمين للحائط، فإننا في العصر الحالي نهمل استخدام الوثائق لاثبات حقوق المسلمين في المدينة المقدسة بل إن الدراسات التي يجريها الباحثون الغربيون والعرب علي المدينة من خلال وثائق أوقافها لم يستفد منها سياسيا إلي اليوم، فأهمل العرب ترجمة كتاب المستشرق الإسكوتلندي مايكل بورجوين ( القدس المملوكية ) لقد كرس هذا العالم 18 عاما من عمره لدراسة آثار القدس ومسحها مسحا طبوغرافيا ومعماريا. فضلا عن مجهودات العديد من المهتمين بتاريخ وتراث المدينة خاصة المرحوم جميل كامل العسلي، والدكتور يوسف النتشة رئيس قسم الآثار في دائرة الأوقاف في القدس الذي انتهي من أطروحة دكتوراه عن المباني العثمانية في القدس، ومسعود أبوبكر الذي درس في أطروحته للدكتوراه ملكية الأراضي في متصرفية القدس 1858 1918 م. وغيرهم.