الشهداء يسقطون... ولا حياة لمن تنادي!

الصراع في قطاع غزة بين حركة "فتح" وحركة "حماس" نتاج طبيعي لمبدأ عدم الاعتراف بالآخر أو القبول بالشراكة السياسية. ومن نتائجه ظهور أساليب جديدة للموت لم يعرفها الشعب الفلسطيني، تصدر أوامر تنفيذها من أمراء الحرب وزعماء العشائر
أو حتي أفراد المرتزقة، مما منح الطابور الخامس مجالاً رحباً لممارسة القتل وإثارة الفتن. وبذلك، أصبح "القطاع" يعيش حالة "كارثية"، وبات بعض أبنائه يجيد لغة القتل والترويع في منطقة "تاريخها" اللجوء والنزوح والجوع والفقر والحصار، وبحيث يتساوي عندهم القتل برصاص الأخ أو العدو، فاكتمل المشهد المحزن، وكبر حجم المأساة، وأصبح "القطاع" -بمزيد من الألم- وكراً للجريمة وساحة تدريب للقتل العشوائي. ومع ذلك، ومن وسط كل هذا العفن، يخرج الشهيد تلو الشهيد متجندلاً خلال مواجهته الاحتلال، ظاناً أن أخاه يحرس ظهره فيجد نفسه وحيداً دون سند (!!!)
موضوعنا اليوم ليس ما يجري في فلسطين من خراب بأيدي "رفاق الدرب الواحد!" ولا كيف يساعد -ولو علي نحو غير مقصود (غالباً)- الدولة الصهيونية، بل الموضوع هو تراجع الاهتمام الإعلامي بشأن سقوط الشهداء علي رغم الظروف الصعبة، التي يعيشها الشعب الفلسطيني مع اعتراف مسبق بدور "الحال الفلسطيني" المزري في التأثير السلبي علي الإعلام العربي. ففيما مضي، كان دور الإعلام مسانداً وموجهاً، وهو أحد أسباب ووسائل الانتصار ونجاحها بذلك، وإسرائيل خير مثال يحتذي. ولطالما قدر الشعب الفلسطيني دور الإعلام العربي، خاصة بعد أن أصبح العالم غير مضطر للجوء إلي الإعلام الغربي المتحيز للجانب الإسرائيلي، فأصبح يتنقل بين الفضائيات العربية ليختار من بينها من يري فيها الأفضلية في التغطية الإعلامية للأحداث. ومنذ ظهورها، كانت المواكبة الإعلامية لأحداث فلسطين أعلي من جيدة، الأمر الذي ساهم في تجاوب الشارع العربي حتي بات من الممكن، خلال اشتداد القمع الإسرائيلي، الحديث عن انتفاضة شعبية عربية داعمة للفلسطينيين. وأدت التغطية هذه إلي تسخين الشارع العربي وخروجه في تظاهرات تطالب بمقاطعة إسرائيل بل بإعلان الحرب عليها. يومها، تركزت التغطية علي جرائم الاحتلال والخسائر التي تصيب الفلسطينيين. ولقد فضحت الفضائيات الممارسات الإسرائيلية عالمياً، فتصدّر الحدث الفلسطيني، وجوهره سقوط الشهداء، عناوين الفضائيات والصحف، وخرجت التظاهرات منددة بالمجازر الإسرائيلية، وتعودت منظمات حقوق الإنسان (المستقلة منها أو تلك التابعة للأمم المتحدة) علي إصدار بيانات تشجب الممارسات الإسرائيلية أو أقلها "استخدام العنف المفرط" من قبل الاحتلال وتطالب بمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين.
بعدئذ، ماذا الذي حدث؟! هل أصبح الموت الفلسطيني موتاً روتينياً مملاً لا عزاء له؟! ولماذا اختزلت التغطية الإعلامية أخبار ما يجري في فلسطين، مع عدم إبراز سقوط الشهداء؟! ولماذا لم نعد نري تقارير وتحقيقات صحفية جادة عما وراء الحدث نفسه؟! نحن لا نعمِّم لكن الصورة بالمجمل سوداوية. فالمتابع للكثير من الفضائيات العربية يلحظ أنها باتت تهتم بمجالات الترفيه الكثيرة (ومن النمط السخيف) علي حساب قضايا الأمة الرئيسية. وأصبحت المساحات المخصصة للحياة الخاصة للفنانين والفنانات ولاعبي كرة القدم أضعاف تلك المخصصة للكشف عن معاناة ومآسي، بل وحتي مقاومة الشعب الفلسطيني، والعراقي وغيرهما. وإذ نحن نعترف بأنه من "طبيعة" الجماهير أن تحبط في ظرف ما ويصيبها اليأس، فإن سقوط الإعلام في مستنقع الإحباط أمر يصعب فهمه. صحيح أن جنائز الشهداء الفلسطينيين اليومية متشابهة بل باتت "روتينية"(!!!)، وصحيح أن الأمة العربية في حالة حرب في مناطق أخري غير فلسطين بدءاً بالعراق، ومروراً بلبنان، وليس انتهاء باليمن والصومال والسودان، ولكن التجاهل/ اللامبالاة في الوقت الحالي لمتابعة الخبر الفلسطيني علي العموم، وسقوط الشهداء اليومي علي الخصوص، تطور يحيِّر، بل يصدم من يحاول قراءة المشهد الإعلامي العربي. وتكمن الطامة الكبري فيما بات يسمي ب"الحيادية" في الخطاب الإعلامي في ظل خطاب إسرائيلي منحاز وناجح. فالقضية ليست فقط قضية نصرة شعب، ولكن كيف يمكن أن تصبح كلمة الحق في "الزمن الأمريكي" عملة نادرة إلي هذه الدرجة في ظل انقلاب الموازين والمفاهيم، فيما ينجح الإعلام الإسرائيلي فيما فشلنا به (وهو الإعلام الذي انشغل خلال سنوات بتزوير الحقائق لاستصدار قرار دولي، وقد نجح، لتحديد يوم تخليد ضحايا النازية وبالذات، ولربما حصراً، باليهود). نحن لا نفهم "حيادية" الإعلام العربي في القضايا المصيرية، لأنها -عملياً- تحجز للإعلام مقعداً بين المتفرجين، فيتحول إلي ناقل للأحداث دون روح، وكأنه يتحدث عن قضية ثانوية!
ليس مبالغة إن قلنا إن الانحسار الإعلامي العربي (ناهيك عن الغربي) أضحي، فلسطينياً، ظاهرة، علي رغم الفورة في الإعلام من فضائيات وغيرها من وسائل الاتصال، وكأني به وقد تأثر بالمناخات السياسية العربية المحبطة المعتمدة علي الإنشائيات الكلامية الخالية من الرؤي المستقبلية. فموقف إعلامنا العربي، بالمجمل، تجاه قضايانا المصيرية، وعلي رأسها القضية الفلسطينية، غير مفهوم بل ومستغرب وبحاجة إلي تحليل وفهم، وبخاصة إذ تشهد الساحة الفلسطينية دائماً الاجتياحات الإسرائيلية مقرونة بتدمير عشرات المنازل وإزالتها عن الوجود، بل هي أحياناً تهدمها فوق رؤوس أصحابها مرتكبة أبشع المجازر التي يذهب ضحيتها الأطفال قبل الرجال، وعموم البشر قبل الشجر والحجر! إذن، هل نقول: سقط إعلامنا العربي بتغطية الخبر الفلسطيني مع تواصل العنف الإسرائيلي، ثم أوليس من حقنا الظن بأنه رضخ للضغوط الأمريكية التي كان الكثيرون يكابرون برفضهم لها، وأنه سائر في طريق حجب حقيقة ما يجري بدل فضح ممارسات الاحتلال.