كان الارتداد عن الدين جزءا من حرية العقل والضمير التي أقام الإسلام عليها دعوته، فمن شرح الله صدره بالإسلام بقي عليه وعاش فيه، وإلا خرج وكفيت جماعة المسلمين شره! وظل هذا الحكم قرابة عشرين سنة منذ بعثة النبي صلي الله عليه وسلم، وكان شرطا مقررا في معاهدة الحديبية. روي ثابت عن أنس أن قريشا صالحوا النبي فاشترطوا: أن من جاءنا منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا!.. فقالوا: يا رسول الله.. أنكتب هذا؟.. قال: "نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا". وقد رأي المسلمون غضاضة شديدة في قبول هذا النص من المعاهدة، ولكن الرسول صلي الله عليه وسلم أمرهم بوحي من الله أن ينزلوا عنده، فقبلوه مكرهين، وليس أبلغ من هذا المسلك في الإبانة عن سماحة الإسلام ونزعته إلي إقرار الحرية العقلية والنفسية بين الناس أجمعين. غير أن كيد خصوم الإسلام له استغل هذه السماحة في النيل منه، فتآمر اليهود فيما بينهم علي أن يتظاهر فريق منهم بالدخول في الإسلام، فيثبتوا استعدادهم لترك دينهم القديم، ويبرءوا من تهمة التعصب له، ثم يرتدوا بعد ذلك عن الإسلام ليشيع بين جماهير الأميين أن اليهود ما هجروا الدين الجديد إلا لما استبان لهم من بطلانه وتفاهته. (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل علي الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون * ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم). فهل يسكت الإسلام علي هذا التلاعب؟.. وهل يداويه بمنع الدخول فيه، أم يحظر الخروج منه؟ وثم شيء اخر يتصل بمعني الردة وأسلوب التمرد علي الدين وجحد تعاليمه، قد يكفر البعض بالله في سريرتهم، فلا يعلم أحد بكفرهم، وقد يبدو هذا الكفر في تصرفات مستخفية ومواقف مائعة، وتكشف الأحداث المتتابعة عن نفاق أولئك القوم وخبث طوبتهم، ومع ذلك فإن الإسلام لم يأمر بقتل المرتدين في السر!.. هؤلاء، بل المأثور عن النبي "صلي الله عليه وسلم" رفضه الإذن بقتلهم. ولكن الارتداد الحاسم عن الإسلام ومعالنة المسلمين بالانفصال عن الدين معالنة تنطوي علي النيل من قواعده والإنكار لأصوله تشبه في أيامنا هذه جريمة الخيانة العظمي وتستحق العقاب الذي تواضع الناس علي رصده لهذه الجريمة المنكرة. فإن الإسلام كان يواجه حربا تستهدف اجتثاث جذوره، حربا تريد رد جمهور المسلمين عن الدين الذي ارتضوه. (ولا يزالون يقاتلونكم حتي يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون). (ولن ترضي عنك اليهود ولا النصاري حتي تتبع ملتهم). وكان المرتد المعالن يترك هذه الجبهة لينحاز بسيفه إلي الجبهة المناوئة، وربما كان أشد خطرا علي الدين ممن بقوا علي شركهم فلم يدخلوا الإسلام لينسلخوا عنه بعد قليل!. فكيف يطلب من الإسلام أن يمنح هؤلاء المرتدين حق الحياة ليشاركوا في قتله. إن المسألة هنا خرجت كل الخروج عن نطاق الحرية العقلية المنشودة، ودخلت في تحديد الدائرة التي تدفع بها الجماعة عن مصلحتها ضد الحرية الشخصية الطائشة، ويوم يصل الأمر في عصرنا هذا إلي حكم يبيح لامرئ أن يبيع وطنه، أو لفرد أن يعرض مستقبل أمة للخطر، فإننا سنبيح باسم الإسلام أن يرتد عن الإسلام من يشاء. والصحيح أن المرتد أحق الناس بوصف الكفر وأجدرهم بالعقاب عليه، فالكفر الصراح هو جحد الحق بعد معرفته، أي أنه ينشأ عن فساد في النفس لا عن قصور في العقل وهنا مناط المؤاخذة، وهل أحق بها من قوم: (يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون). ويوم يتبين الهدي لرجل ثم تنزعه بواعث الهوي، ثم تسخره في حربه فلا جرم أن يقطع عنقه. أما الشبه العارضة والوساوس التي يلتمس لها صاحبها علاجا من الفكر السديد والدلائل القوية فليست رده، ودون ثبوت الردة علي المتهم بها مراحل طوال، ولا يلتفت فيها إلي تسرع العامة، وأهواء الجهال.