انتابتني مشاعر متباينة أثناء مشاهدتي، مشدوها، مساء الأحد الماضي لحلقة مثيرة من برنامج "علي الهواء" الذي يقدمه الزميل جمال عنايت علي قناة الصفوة بشبكة "أوربت" ويرأس فريق اعداده الزميل محمود نافع. وكان موضوع الحلقة عن التعذيب.. ياحفيظ!! ولم يكن الحديث عن التعذيب بصورة مجردة، وانما عن التعذيب في مصر بصورة محددة. لذلك كانت الدهشة هي الشعور الأول الذي سيطر علي تفكيري للوهلة الأولي عندما استمعت إلي المقدمة الموضوعية - والمثيرة - التي افتتح بها جمال عنايت برنامجه الرصين. وسبب هذه الدهشة هو ان موضوع التعذيب في مقدمة الموضوعات "المسكوت عنها" منذ سنوات وعقود، بل في مقدمة الموضوعات المحظور الاقتراب منها بأي صورة من الصور. وعندما بدأ الحديث عن هذه الظاهرة المرعبة في بعض وسائل الإعلام، فإن ذلك كان يجري علي استحياء، وفي قنوات أجنبية أوبعيدة عن الأراضي المصرية ودون وجود أي ممثل للحكومة المصرية. في برنامج "علي الهواء" الذي يتم بثه من مدينة الانتاج الإعلامي بالقرب من العاصمة المصرية، كان الوضع مختلفا: أثنان من ممثلي منظمات حقوق الإنسان، بهي الدين حسن، ومحسن البهنسي يجلسان في نفس الاستديو وعلي نفس المائدة مع اللواء أحمد ضياء الدين مساعد وزير الداخلية للشئون القانونية. والاثنان - ومن قبلهما جمال عنايت - يواجهان المسئول الأمني الكبير بوقائع وأرقام وحقائق وشكاوي وتقارير كثيرة أكثر من الهم علي القلب تتعلق بهذه الظاهرة المشينة. وكان الطبيعي - والمتوقع - ان يدافع الرجل عن وزارته وينفي عنها تواطؤها أو تورطها في هذا المستنقع الكريه. ويؤكد ان سياسة الداخلية الرسمية هي رفض انتهاك القانون أو انتهاك حقوق الإنسان، ويبدي استعداده لتلقي أي شكاوي بهذا الصدد، وترحيبا باستقبال أي مواطن لديه أي شكوي متعلقة بالتعذيب علي يد جهة من جهات الشرطة. ورغم تشبث اللواء أحمد ضياء الدين بافكار ان يكون التعذيب ظاهرة، أو انها تمارس بصورة منهجية، وتأكيده بالمقابل انها "أحداث فردية". رغم ذلك فان هناك جديدا في الأمر، لا يجب اغفال أهميته ومغزاه، يتمثل في حضور مسئول رفيع المستوي من وزارة الداخلية لمناقشة علنية مذاعة علي الهواء مكرسة لبحث هذه المصيبة المروعة، واعترافه بتورط عدد من رجال الشرطة في تعذيب مواطنين، وتأكيده ان الداخلية لم تتساهل مع هؤلاء الأفراد بل اوقعت بهم العقاب المناسب. وبالطبع فان هذه الاجابة لا تشفي غليل أولئك الذين أوقعهم حظهم العاثر في أيدي وحوش بشرية سولت لهم نفوسهم المريضة انتهاك آدمية مواطنين مصريين. لكنها مع ذلك تظل نقطة بداية مهمة وجودها ليس كعدمها، كما انه يمكن البناء عليها من أجل بحث أكثر جذرية لتلك الظاهرة السلبية التي كانت حتي الأمس القريب في عداد المحظورات والمحرمات التي لا يجب الاقتراب منها أو فتح ملفاتها. ومن أجل تطوير النقاش بهذا الصدد والوصول به إلي نتائج عملية تزيل هذه الوصمة من جبين مصر.. أود ان اسجل النقاط التالية: أولا: التنويه بان التعذيب يقصد به اي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد، جسديا كان أم عقليا، يلحق عمدا بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص أو من شخص ثالث، علي معلومات أو علي اعتراف، أو معاقبته علي عمل ارتكبه أو يشتبه في انه ارتكبه، هو او شخص ثالث أو تخويفه، أو ارغامه، هو أو أي شخص ثالث، أو عندما يلحق مثل هذا الألم أو العذاب لأي سبب من الأسباب يقوم علي التمييز أيا كان نوعه، أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية. باختصار.. تشمل جريمة التعذيب كل ابتزاز نفسي أو إيلام عضوي يقع علي شخص ما بهدف التهديد أو الترويج او الحصول علي معلومات. وليس هذا التعريف من عندياتنا وانما هو التعريف المعتمد لدي المنظمات الدولية المعنية، والذي ينطبق علي كل بلدان العالم بما فيها مصر. ثانيا: التعذيب له تاريخ طويل ومؤلم للبشرية، ويقول تقرير لاحدي المنظمات المعنية ان استخدام التعذيب بغرض الحصول علي المعلومات والاعترافات يعود إلي تاريخ مصر القديمة، كذلك استخدام التعذيب في كل من اليونان وروما، وفي أوروبا شاع استخدام التعذيب في فترة التغييرات الحادة، ويروي لنا التقرير، أساليب بشعة لاستجواب المتهمين تضم اهدارا جسيما لحرياتهم وكراماتهم الإنسانية، من بينها ما كان يحدث في العصور الوسطي من اخضاع المتهمين لاختبارات عسيرة لبيان "حكم الله" في شأنهم كأن تقيد به المتهم اليمني حتي قدمه اليسري ثم يلقي في ماء النهر، فإذا غرق كان ذلك "برهانا الهيا" علي إدانته أما إذا طفا علي سطح الماء انقذه الرب لبراءته وفي عهد لويس الرابع عشر صدر أمر ملكي سنة 1670 يقر العرف السائد في فرنسا بان يستجوب المتهم ثلاث مرات قبل التعذيب، وأثناء التعذيب وبعد التعذيب وكان التعذيب في نظر الناس آنذاك أمرا عاديا وكانوا يسمونه ب "الاستجواب القضائي". وقد احتاج الأمر إلي دهور طويلة نزلت خلالها رسالات من السماء واندلعت ثورات علي الأرض ونشبت حروب ضروس واقيمت حضارات وامبراطوريات كبري واندثرت أخري، احتاج الأمر كل ذلك من أجل اقرار حقوق الإنسان وحرياته، ومن ضمنها حقه في احترام كرامته الإنسانية وسلامة جسده وقواه العقلية والنفسية. ثالثا: هذا الكلام الذي نقلناه عن موقع "التعذيب في مصر" ينقلنا من العام إلي الخاص، وبهذا الصدد تضعنا تقارير المنظمات الدولية أمام صورة مفزعة. خذ مثلا تقرير منظمة "هيومان رايتس ووتش" التي اصبحت واحدة من أهم منظمات حقوق الإنسان في العالم، يقول بالنص "لقد أصبح التعذيب ظاهرة مستمرة واسعة النطاق في مصر، إذ دأبت قوات الأمن والشرطة علي تعذيب المعتقلين أو إساءة معاملتهم خصوصا في أثناء التحقيقات وفي معظم الحالات يقوم المسئولون بتعذيب المعتقلين للحصول علي معلومات أو لانتزاع اعترافات منهم، الأمر الذي يفضي أحيانا إلي الوفاة وفي بعض الحالات يتخذ المسئولون تعذيب المعتقلين أداة للعقاب أو التخويف أو الاذلال، كما تقوم الشرطة باعتقال ذويهم وتعذيبهم للحصول علي معلومات أواعترافات من أقربائهم أو اجبار أقربائهم المطلوبين علي تسليم أنفسهم". ويمضي التقرير ابعد عن ذلك ليقول بالنص ايضا إذا كان التعذيب في مصر يستخدم عادة ضد المعارضين السياسيين فقد صار متفشيا كالوباء خلال السنوات الأخيرة حيث يكابده عدد كبير من المواطنين العاديين الذين يجدون أنفسهم في الحبس في أقسام الشرطة كمشتبه فيهم أو في إطار تحقيقات جنائية ولا تحقق السلطات المصرية في الغالبية العظمي من ادعاءات التعذيب علي الرغم من ان القانونين المصري والدولي يلزمانها بإجراء مثل هذا التحقيق. أما في الحالات القليلة التي تم فيها تحريك الدعوي القضائية ضد بعض الضباط بسبب التعذيب أو سوء المعاملة فكثيرا ما كانت التهم هينة والعقوبات غير كافية بدرجة لا تتناسب مع الجرم، وقد أدي غياب المحاسبة العلنية والشفافية علي هذا النحو إلي ترسيخ مناخ يشعر فيه الجناة بأنهم بمنأي عن العقاب". هذا جزء من تقرير منظمة دولية مهمة يقول عكس ما أكده اللواء أحمد ضياء الدين من أننا إزاء حالات فردية يتم الحساب علي مرتكبيها، بل نحن إزاء "ظاهرة" فكاد ان تكون "وباء" لا يبتلي به السياسيون فقط وانما المواطنون العاديون ايضا. وان القليل من المتورطين في هذه الظاهرة المشينة هم الذين يحاكمون، وإذا حوكموا فان التهم تكون هينة والعقوبات غير كافية. ومع ذلك فان كلام مساعد وزير الداخلية اللواء أحمد ضياء الدين يظل مهما ويظل الجدل البناء معه مطلوبا من أجل التوصل إلي نتائج عملية لوأد هذه المممارسات غير الإنسانية التي تلحق العار بمصر بأسرها وتسحق روح الأمة حتي ان وقعت لعدد محدود من أبنائها.. فما بالك إذا كان ضحاياها بالمئات والألوف!!؟ وللحديث بقية.