كتب الاستقلال عيده، أمس، بدماء الشهيد الجديد: بيار أمين الجميل.. وأصاب رصاص القاتل المحترف هدفه تماماً: مشروع التسوية الذي كانت خيوطه تنسج بحذر لتخطي المأزق الوطني بعدما تجاوز بخطورته "السلطة" والمقاعد الوزارية ليتهدد "الكيان" ذاته بخطر التصدع. لم يكن للنائب الوزير الشاب المشتعل حماسة خصوم شخصيون. كان له رأيه السياسي.. وبرغم حدته الصوتية أحياناً فإن أقواله كانت تؤخذ علي محمل "أنه يريد أن يؤكد جدارته بالإرث السياسي"، وهو إرث ثقيل ألقته مقادير "العائلة الرئاسية" علي كتفيه. كان عليه أن يثبت أنه مؤهل لأن يحمل أعباء ذلك الإرث الذي وصله وقد جلله الدم، برغم دخوله المعترك السياسي في سن مبكرة. كان بيار أمين الجميل محاصراً بتاريخ حافل بالتجارب المتعددة الوجوه: هناك جده الراحل، الذي يحمل اسمه، وهو المؤسس الذي لعب دوراً استثنائياً في السياسة اللبنانية علي امتداد نصف قرن تقريباً "وأنجب رئيسين للجمهورية"، أولهما عمه الشيخ بشير الذي رفعته "المغامرة" إلي الذروة ثم اغتالته قبل أن يتسنم المنصب الفخم، أما الثاني فأبوه الذي جاءت إليه الرئاسة التي تعذر عليه الوصول إليها، ثم غادرها فارغة من مستحقها فأخذها من فتحت له أبواب القصر وإن عزت عليه الشرعية. ولم يكن بيار أمين الجميل قد اكتسب خلال حياته السياسية القصيرة موقع "العدو الخطير الذي لا بد من التخلص منه" لأي طرف داخلي، أو لأية جهة خارجية. كان موقفه ينتمي إلي مدرسة جده وأبيه التي يحكم سياقها ما يقرب من السلطة، ولو بالصوت العالي اعتراضاً. لذلك فقد كان لاغتيال هذا الشاب الوسيم، الملتهب الحماسة، الذي يتحدث وكأنه يخطب، دويه الصاعق للجميع: فهو لم يكن يشكل خطراً علي أحد بالذات، شخصاً أو حزباً أو دولة، ولا هو كان صاحب مشروع كعمه الراحل بحيث تتكتل ضده القوي وتتآمر لإزاحته قبل أن يلغيها. ثم إن بيار أمين الجميل هو وريث المدرسة الواقعية في السياسة التي تعتمد القاعدة القائلة: لا أعداء دائمين، ولا تحالفات دائمة، بل هناك مصالح دائمة.. كذلك كان حين خاض من خلف أبيه معركة حزب الكتائب، فقد ظل يهدر بصوته خطيباً، في انتظار اللحظة المناسبة فلما جاءت كانت "التسوية" التي أعادت إليهم "الحزب" ولكن بصيغة مختلفة عما ألفوه. ربما لهذا أخذت الناس الحيرة حول تحديد "الجهة" التي أمرت بالاغتيال، والتي أثبتت "العملية" أنها "محترفة" وأنها تعرف من التفاصيل ما يمكنها من التنفيذ في منطقة مزدحمة، وخلال "زيارة" غير متوقعة، وبسرعة قياسية يسّرت للمنفذين أن يختفوا وسط الدوي الصامت لجريمتهم. لم تصمد طويلاً حكاية إنقاص عدد وزراء "الأكثرية" ليمكن بالتالي فرط الحكومة، دستورياً، لأن رائحة الفتنة تفوح منها، وغرضها مكشوف بحيث لا يمكن تصديقه. أما موضوع المحكمة ذات الطابع الدولي فكان في طريقه لأن يقره مجلس الأمن، وهذا ما حدث فعلاً، مع الإشارة إلي أن كل الدلائل كانت تؤكد أن "المسودة" التي أرسلت إلي بيروت وعادت بلا أي تعديل، ستعتمد بالإجماع، بعد معالجة "الملاحظات" التي أبداها بعض المندوبين عليها. وبالتالي كان حتمياً استبعاد هذه المحكمة، أو محاولة تعطيلها.