بعد ثلاث سنوات علي استشهاد بيار أمين الجميل، لايزال مطلوبا من اللبنانيين السعي إلي فهم كل أبعاد الجريمة التي استهدفت شابا يؤمن بثقافة الحياة والعيش المشترك بين اللبنانيين وبالصيغة اللبنانية. اغتيل بيار أمين الجميل لأنه يرمز إلي الشباب اللبناني المتمسك بأرضه الطامح إلي مستقبل أفضل للبنان أولا. واغتيل لأنه يرمز إلي الارادة اللبنانية المتمسكة بإعادة الحياة إلي الصيغة بعيدًا عن أي نوع من التزمت والانغلاق وبعيدا عن العمالة للخارج ثانيا وأخيرا. كان بيار أمين الجميل يبعث علي الأمل. كان يبث الأمل في الشباب اللبناني من كل الفئات والمناطق والطوائف. كان ذلك سببا كافيا لاغتياله. كان مطلوبا أن ينجر المسيحيون إلي أن يكونوا مجرد ادوات لدي الأدوات في بلدهم. ولذلك ركز المجرمون، بعد تفجير موكب الرئيس الشهيد رفيق الحريري، علي كل الشخصيات المسيحية التي تعمل من اجل الجمع بين اللبنانيين، بين المسلمين والمسيحيين تحديداً. من هذه الزاوية، يمكن فهم لماذا كان اغتيال سمير قصير ثم جورج حاوي ثم جبران تويني وبعدهم بيار أمين الجميل وصولا إلي النائب انطوان غانم. دفع بيار أمين الجميل غاليا ثمن الدور الذي لعبه علي صعيد إعادة تنظيم حزب الكتائب واعادته حزبا لبنانيا. انتزع الحزب من فم الأجهزة السورية التي صادرت حزب الكتائب وغيرت طبيعته ووضعت الدكتور سمير جعجع في السجن في الوقت ذاته، كي لا يعود للمسيحي صوت من أي نوع كان باستثناء الكلام الفارغ الذي كان يطلقه ميشال عون من فرنسا والذي تبين لاحقًا بالملموس انه ليس سوي عبارة عن مزايدات تخدم اولئك الذين عملوا منذ العام 1989 تاريخ توقيع اتفاق الطائف علي إذلال اللبنانيين وتهجيرهم، خصوصا المسيحيين منهم. في النهاية، لا بدّ من ان يتذكر المرء أن عملية الانقلاب علي الطائف وتحويله من طائف عربي يحظي بغطاء دولي إلي طائف سوري، بالمفهوم الضيق للكلمة، تمت علي يد ميشال عون الذي سهل عملية اغتيال الرئيس المنتخب الشهيد رينيه معوض ثم دخول السوري إلي قصر بعبدا ووزارة الدفاع للمرة الأولي منذ الاستقلال. لم يكتف بيار أمين الجميل باستعادة الاستقلال الكتائبي وتحرير الحزب من مغتصبيه وخاطفيه المعروفين وغير المعروفين، بل عمل علي مد الجسور مع الآخرين. مد الجسور وفتح القنوات مع كل من يؤمن بلبنان أولا. الأهم من ذلك كله، انه صار يمثل المستقبل، بمعني انه صار ركيزة من ركائز بناء لبنان الحديث، لبنان الديموقراطي، لبنان الحر المنفتح علي العالم. بكلام أوضح، صار بيار عنوانا من عناوين معركة الاستقلال الثاني التي بدأت يوم الرابع عشر من - مارس 2005. كان ممنوعاً أن يكون في الجانب المسيحي من هو قادر علي قول كلمة حق وجمع المواطنين حول شعارات ثورة الاستقلال. كان مطلوبا بكل بساطة ان يكون هناك قطب مسيحي يعتمد في كل شيء علي النظام السوري وعلي اصوات "حزب الله" وقسم من الأرمن الموالين لدمشق وطهران، حتي في المتن وكسروان، وان يتحلق حول هذا القطب نواب لا يمتلكون من المؤهلات سوي فن الاستزلام، نواب يخجل من لديه حد ادني من الشعور الوطني والكرامة من ذكر اسمائهم. كان مطلوبا ضرب الوجود المسيحي في لبنان وتهميشه. كان بيار الجميل يقف في وجه هذا التوجه. ولذلك كان لا بد من ازاحته. كلما مر الوقت، يكتشف اللبناني كم ان المؤامرة التي تستهدف الوطن الصغير شرسة. انها مؤامرة مستمرة منذ فترة طويلة. من يستعيد اسماء الشخصيات التي اغتيلت في السنوات ال35 الأخيرة يكتشف ان ما علي المحك مصير لبنان وحياة كل من له حد ادني من الحيثية علي الصعيد الوطني. من يستعرض اسماء الذين اغتيلوا، لا يستغرب التخلص من الزعيم الوطني كمال جنبلاط ولا من الرئيس بشير الجميل او المفتي حسن خالد ثم رينيه معوض وصولا إلي رفيق الحريري وشهداء انتفاضة الاستقلال الثاني. ما يجمع بين جميع الذين اغتيلوا وبين الشهداء الأحياء، علي رأسهم الوزير الياس المر والزميلة مي شدياق، ان الشخصيات اللبنانية لا تصير مستهدفة إلا عندما تتحول إلي شخصيات جامعة بين اللبنانيين ومدافعة عن الهوية اللبنانية ببعدها العربي الحقيقي. ما دامت هذه الشخصية أو تلك قادرة علي لعب دور يصب في التفريق بين ابناء الوطن الواحد، لا خوف عليها وعلي حياتها... لم يحصل اغتيال بشير الجميل، علي يد جهة تابعة للنظام السوري، ألا بعدما تصرف مع الأسرائيليين بطريقة تؤكد انه ينوي ان يكون رئيسا لكل لبنان ولكل اللبنانيين من دون أي تمييز او تفرقة ! شكل بيار أمين الجميل خطرًا مزدوجا علي اعداء لبنان. استطاع اخراج المسيحيين من حال الاحباط والتبعية، وبدأ يتحول إلي زعيم وطني لديه امتدادات لدي الطوائف الأخري وفي كل المناطق اللبنانية. بات خطرًا علي الذين يسعون إلي اخضاع لبنان عبر الأدوات المعروفة وادوات الأدوات التي تتلطي بالشعارات المثيرة للغرائز المذهبية ولا شيء عدا ذلك. العزاء الوحيد ان بيار في حياته، كذلك بعد استشهاده، لا يزال رمزاً للمقاومة الحقيقية. ان يحضر الرئيس سعد الدين رفيق الحريري صلاة القداس عن راحة نفسه وان يحتضن ولديه أمين والكسندر بالطريقة التي احتضنهما بها دليل علي ان شيئا ما تغير في العمق في لبنان وان روح بيار المقاومة لا تزال حية ترزق.