كتابات شتي ودراسات عديدة اجتهدت في سبر أغوارإشكالية العلاقة بين الحضارات، والتي تتنازعها جدليتي الحوار والصدام. وقد خلصت معظم تلك الكتابات والدراسات إلي استنتاج مؤداه أن فكرة الحوار، التي تعد بمثابة الأصل أو الفطرة التي فطر الله عليها الحضارات، إنما تستوجب قبل الشروع فيها خطوة تمهيدية غاية في الأهمية، ألا وهي إعادة التعارف بين الحضارات علي أسس موضوعية بعيدا عن الصور الذهنية النمطية التقليدية والمشوهة، التي تداخلت اعتبارات سياسية ودينية غير موضوعية في تشكيلها علي النحو الذي يبقي تلك الحضارات في أتون مشتعل ودائم من الصراعات وسوء الفهم المتبادل وينأي بها عن الحوار الإيجابي البناء والتقارب الخلاق، توخيا لوضع لبنات راسخة وموضوعية لحضارة إنسانية جامعة تتسع بوتقتها للإسهامات الثرية والبناءة التي تجود بها جميع الحضارات البشرية بغير إحتكار أو إقصاء. وأحسب أن عملية التعارف الحضاري تلك إنما تتطلب من جانبنا نحن العرب والمسلمين كوادر بشرية حضارية أو فاعلين حضاريين مؤهلين لمثل هذه المهمة الشاقة البالغة الحساسية، ليس فقط لكونها الأساس الذي سوف تبني عليه عملية الحوار أو التواصل بين الحضارات، ولكن لأن لغة الخطاب الحضاري التي سوف تتبناها وتروج لها تلك الكوادر أو أولئك الفاعلون، ستكون بمثابة تصحيح حضاري أو مراجعة حضارية لكل ما سبق ترويجه وتداوله من كتابات حول حضارتنا وتاريخنا اللذين طالما تعرضا للعبث بهما من قبل المغرضين والمحرضين والجهال علي مدي التاريخ، كما سوف تصير مرجعية لكل تحرك عربي وإسلامي باتجاه الحوار أو الاتصال بالآخر.فضلا عن ذلك،إن عملية التعارف الحضاري المزمعة وما تستتبعه من حوارات مرتقبة،إنما تتأتي في ظروف دولية بالغة الدقة والحساسية من شأنها أن تجعل من مهمة الكوادر الحضارية أو الفاعلين الحضاريين ضربا من المغامرة،فلا يزال الإسلام والمسلمون موضع اتهام بممارسة العنف والإرهاب وافتقاد القدرة علي التواصل أو التعايش مع الآخر،وهي الأزمة التي أسهم في تأجيجها إلي جانب الممارسات المتطرفة من بعض المحسوبين علي الإسلام، حالة الإسلاموفوبيا التي ترزح في أغلالها المجتمعات الغربية علي نحو كان له بالغ الأثر في تشييد الحواجز وتوسيع الفجوة بين الإسلام والغرب. وانطلاقا من هذا الطرح، بدا جليا عوز المسلمين والعرب إلي كوادر وفاعلين حضاريين مؤهلين بالقدر الذي يجعل منهم خير سفراء لدي الآخر الغربي، الذي استبد به مزيج من مشاعر التوجس من الإسلام والتشكيك في المسلمين والاستعلاء عليهم. وكثيرا ما جنح مفكرون عرب ومسلمون نحو الارتكان إلي الجاليات العربية والإسلامية في بلاد الغرب باعتبارها خير من يقوم بهذا الدور الحيوي، استنادا إلي معايشتهم لأهل تلك البلاد وتحدثهم بألسنتها وإلمامهم بثقافاتها وإدراكهم لسبل وآليات الالتقاء معها. غير أن لكاتب هذه السطور رأيا مغايرا بعض الشيء،فقد بدا لي من خلال دراستي لأوضاع الجاليات العربية والإسلامية في بعض المجتمعات الغربية ومعايشتي المؤقتة لعينات منهم داخل تلك البلدان، أن ثمة ما يعوق إضطلاع تلك الجاليات من أبناء العرب والمسلمين المهاجرين بتلك المهمة الشديدة الخصوصية. ذلك أن أولئك المهاجرين، وإن صار معظمهم مواطنين، يعانون من مشاكل عديدة تؤرق وجودهم في تلك البلدان إلي الحد الذي يكاد يجعل الكثيرين منهم مواطنين من الدرجة الثانية. فإلي جانب المشاكل المتصلة بمسألتي الإندماج والهوية، والتي يتأرجح خلالها المهاجرون العرب والمسلمون ما بين خيارين إما الذوبان التام في تلك المجتمعات علي النحو الذي قد يفضي إلي مسخ ذاتهم الحضارية وثقافتهم الأصلية، وإما الإنزواء والتشرنق حول تلك الذات الحضارية والهوية الأصلية علي نحو ربما يودي بهم إلي مهاوي لإقصاء والتهميش في الوطن الجديد،هناك مشاكل أخري عديدة، منها ما ينبع من داخل هذه الجاليات ذاتها، ومنها ما يتأتي من المجتمعات والدول التي يعيشون فيها، ثم هناك ما تسهم به الدول الإسلامية والمسلمون في ديار الإسلام. أما الشق المتعلق بالأوضاع الداخلية والعلاقات البينية داخل تجمعات المهاجرين العرب والمسلمين في الغرب،فيتجلي في حالة التشرذم والتشظي الفجة التي تفتك بهم وتفت من عضدهم تتمثل في بروز النعرات القومية والشعوبية التي تفرق صفوفهم وتنال من فاعليتهم وتأثيرهم في بلاد المهجر، فضلا عن تعدد المناهج الدعوية لديهم بسبب الافتقاد لمرجعية إسلامية موحدة وجامعة. وتبرز قضية زواج المسلم من غير المسلمة بوصفها واحدة من بين المشكلات الاجتماعية الخطيرة التي تفاقم من إشكاليتي الإندماج والهوية بين صفوف المسلمين في المجتمعات الغربية. علاوة علي ذلك،هناك مشكلات اقتصادية تؤرق الجاليات العربية والإسلامية في الغرب لعل في صدارتهاعدم وجود مؤسسات اقتصادية دائمة وقوية تقدم الدعم المالي الملائم للعرب والمسلمين في الغرب من أجل مساندة أنشطتهم الثقافية وجهودهم الحضارية، ناهيك عن سوء إدارة أموال التبرعات التي يتم جمعها بسبب ضحالة الخبرات الفنية وعشوائية التخطيط الاقتصادي, كما أن المساعدات غير المنتظمة التي تتأتي من بعض الدول العربية والإسلامية غالبا مالا تفي بمتطلبات العرب والمسلمين في بلاد المهجر.وتحت وطأة تلك المشاكل،لم يجد بعض أبناء الجاليات العربية والإسلامية في المجتمعات الغربية، مناصا من التخلي عن هويتهم وثقافتهم الأصلية والذوبان الطوعي أو الإضطراري في تلك المجتمعات هربا من المشاكل المزمنة التي من شأنها أن تقف حائلا دون بلوغهم المكانة التي يرتأون أنهم يستحقونها في مجتمعات غالبا ما يضيق صدرها حيال العرب والمسلمين الرافضين للإندماج علي الطريقة الغربية.