يعود برنامج حرب الفضاء الأمريكي والذي يعني نشر شبكة دفاعية وهجومية حول الولاياتالمتحدة تغطي كافة سماواتها وتقي أجواءها من أي هجمات صاروخية ونووية من دول العالم إلي خمسينات القرن المنصرم غير أن انطلاقتها الحقيقية كانت في أوائل الثمانينيات وتحديدا في زمن الرئيس رونالد ريجان والذي عرف بانقياده للمفكرين التوراتيين الذين أقنعوه بان المواجهة مع روسيا والصين هي التي ستشكل المعركة النهائية للعالم أي في معركة هرمجدون وعليها قال ريجان ذات مرة "إن كل شيء بات معدا الآن وان الأمر لن يطول ذلك أن يهوه سوف يمطر علي جيش أبناء الظلام حجارة برد عظيمة ونارا وكبريتا يدمر بها أعداء شعبه المختار". والأصل في المطر انه يتساقط من الفضاء وهي خير إشارة لفكرة عسكرة الفضاء وكان ريجان قد اقتنع بتفسيرات القس بات روبرتسون المعروف بعنصريته الشديدة وتطرفه ودفاعه المستميت عن إسرائيل والتي قال فيها إن حشودًا من البشر سيأتون من الشمال من بلاد يأجوج وماجوج بقيادة رؤساء ماشك وتوبال وهي جغرافيا المنطقة الواقعة في شرق آسيا حيث روسيا والصين حاليا. وقد اقنع روبرتسون الرئيس ريجان بأنهم سيأتون لتدمير شعب إسرائيل ولان حماية إسرائيل هي جزء أصيل من الفكر الاستراتيجي الأمريكي لذا فقد بادر الرئيس المدفوع بالفكر المشتعل بالرؤي التوراتية إلي تهيئة المسرح الكوني من خلال استخدام الفضاء كخلفية حربية وتجهيزها لليوم الذي ستحدث فيه المعركة الكبري. والواضح أن ريجان لم يقدم هذا التبرير لشعبه كما يفعل بوش اليوم وإنما قدم برنامج حرب الفضاء الأمريكي علي أساس انه المظلة التي ستحمي سماء الولاياتالمتحدةالأمريكية من الصواريخ الروسية العابرة للقارات ومع انهيار المعسكر الشيوعي وتفكك دول الاتحاد السوفيتي تعرض المشروع لانتكاسة كبري من خلال وقف تمويله إلي أن قدر للأصولية اليمينية أن تظهر ثانية في عهد بوش الثاني واستتبع ذلك الظهور إحياء البرنامج ثانية؟ ففي احد أعداد صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية يورد "كرياج اسنيدرات وهيلين كاليكوت تقريرا مفصلا عن اشتعال سباق التسلح في الفضاء بعدما أنفقت الادراة الأمريكية علي مدار الأعوام القليلة الماضية نحو 500 مليون دولار لتطوير الأبحاث الخاصة لتحقيق هذا الهدف والمعلومات هنا علي ذمة مركز معلومات وزارة الدفاع". ما الذي اشتمل عليه الإحياء الجديد لمشروع عسكرة الفضاء؟ اشتمل البرنامج علي تطوير الأبحاث المتعلقة بالأسلحة المضادة للأقمار الاصطناعية والأنظمة المضادة للصواريخ والتي تتخذ من الفضاء قاعدة لها والأسلحة التي تعمل بأشعة الليزر والأقمار الاصطناعية التي تستخدم كمركز لشن الهجمات باستخدام التأثير المتطور والطاقة الموجهة بالإضافة إلي احتمال استخدام التفجيرات النووية. وبتحول المشروع من الحلم إلي الواقع لم تنكر الولاياتالمتحدة أهدافها الحقيقية من وراء المشروع وهو ما أعلنته قيادة الفضاء الأمريكية في وثيقتها المسماة "رؤي لعام 2020" والتي احتوت علي توجهها الجديد للسيادة التامة علي الفضاء ذاكرة أن الدولة التي تستطيع أن تفرض هيمنتها علي الفضاء يمكنها حينئذ أن تفرض سيادتها علي الأرض وذلك هو التوجه النهائي للولايات المتحدة لتفعيل قوتها. وقد وجدت الولاياتالمتحدة في العقد الأخير من القرن الماضي أي مع حرب الخليج الثانية إضافة إلي حربي أفغانستان والعراق في أوائل القرن الحالي ميدانا خصبا للتأكد من جدوي برامج عسكرة الفضاء ذلك لان المعارك هناك قد جري إدارتها من خلال الهيمنة العسكرية الأمريكية عبر الفضاء وتوجيهها للقذائف سواء في البر أو في البحر وقد أضحي الفضاء الميدان الجديد للصواريخ الباليستية العابرة للقارات التي تدخل وتخرج عبره ناهيك عما لم يعلن عنه من دقائق البرنامج الجديد. من روبير جوزيف إلي يفجيني بريماكوف والحق انه قبل الانصراف يلزم التوقف ولو قليلا أمام رجلين يمثل احدهما القوة الأمريكية الدافعة لبرنامج عسكرة الفضاء مؤخرا والثاني منظر لحالة الهيمنة الأمريكية التي تتمدد خارج الأرض. الأول هو روبير جوزيف والذي يعد اليوم من المحركين الرئيسيين لبرنامج حرب الكواكب وقد لمع نجمه عندما قاد بنفسه عملية انسحاب الولاياتالمتحدة من معاهدة الحد من انتشار الأسلحة الباليستية بعد أن شغل منصب نائب وزير الخارجية لمراقبة التسلح وقد عمل علي تقوية موقع الولاياتالمتحدة التسلحية والحيلولة دون حصول الدول الفتية علي تقنية التسلح كما سعي أيضا إلي تحجيم إمكانيات الدول الكبري العسكرية وعرف أخيرا بهوسه الرامي إلي عسكرة الفضاء ومن اجل تحقيق توازنات عسكرية فضائية كانت روسيا قد اقترحت التوقيع علي معاهدة للحد من التسلح في الفضاء رغم استعدادها لإطلاق سلاح من شأنه تعطيل مفعول مجال الأقمار الاصطناعية المحيطة بالأرض. ويمثل حضور روبير جوزيف اليوم حال المحافظين الجدد في أمريكا ويعكس فلسفته القائلة بان الولاياتالمتحدة لابد وان تسبق بمراحل منافسيها سواء في روسيا أو الصين وعلي هذا الأساس فهي تريد أن تستغل هذا التفوق إلي اكبر حد ممكن من اجل دفع منافسيها سلميا إلي التخلي من جانب واحد عن أسلحتهم وبالتالي القبول بمبدأ الأمر الواقع الذي يعني التفوق النوعي للولايات المتحدة في مجال التسلح والذي يدلل رمزيا علي سيطرة أمريكا علي كوكب الأرض. بينما الرجل الثاني هو يفجيني بريماكوف رئيس وزراء روسيا الأسبق والذي يري أن ما يجري من جانب الولاياتالمتحدة هو مرحلة جديدة من مراحل الهيمنة الأمريكية للتمدد خارج الأرض ويري أن السياسة الأمريكية بالنسبة لشبكة الدفاع الوطنية الصاروخية سواء المقامة في الفضاء أو في مكان أخر تنطلق من رغبة واشنطن في الحفاظ علي موقعها المسيطر وان الدوافع من وراء تشكيل شبكة دفاع وطنية صاروخية لم يعد عسكريا في طبيعته ويمضي يقول "إن هذه الشبكات تمثل أكثر من مجرد وسيلة للخروج من الجمود العلمي في مجال الدفاع النووي أو الحماية ضد بعض الهجمات الصاروخية الافتراضية من كوريا الشمالية وان ما يريده الأمريكيون أكثر من أي شيء أخر انه سيجعلهم يتميزون وسط الزحام في الاستراتيجيات الجديدة للقرن الواحد والعشرين". ويري أن تحمس الولاياتالمتحدة للحفاظ علي تميزها عبر التقدم التكنولوجي في مجال الدفاع المضاد للصواريخ إنما هو وسيلة لتجنيب التعامل مع العالم متعدد الأقطاب الذي يتبلور في الوقت الراهن رغما عن إرادة واشنطن. وفي الختام نضع التساؤل علي مائدة النقاش: إلي أين يمكن أن تمضي الولاياتالمتحدة في برامجها الساعية للانفراد بالهيمنة علي الفضاء؟ الإجابة انه حال ترك الساحة الفضائية لواشنطن بمفردها تشكلها حسب شهوات قلبها فانه سيتوفر لها هيمنة ليس فقط علي نظام الدفاع الصاروخي بل علي النظام الهجومي الاستراتيجي من الفضاء إلي الأرض والأنظمة المضادة للصواريخ في الفضاء وهذا سيقلب بشكل جذري حالة التوازن العسكري والسياسي ومعني عدم وجود خصوم حقيقيين للولايات المتحدة فان ذلك سيجعل من المحافظين الجدد وأشباههم أصحاب الدولة المارقة الأكبر والتي تصنع بالعالم ما تشاء ولما كان احد لا يرضي بالصورة السابقة فيظل البديل قيام تكتل يجمع بين الدول المتقدمة صناعيا وتكنولوجيا والمعادية لأمريكا وفي مقدمتها الصين وروسيا وربما اليابان ودول أخري لقطع الطريق علي محاولات الولاياتالمتحدة لفرض الهيمنة الأحادية في الفضاء وآنذاك سيؤول ذلك إلي سباق للتسلح وهذا بدوره سينتقل إلي الفضاء وما يحمله من نتائج وخيمة. أما النتيجة المؤكدة للسياسات الفضائية الأمريكية والمستنبطة من خلال وثيقتها الجديدة لعسكرة الفضاء فهي أن أمريكا تعد نفسها لليوم الذي تصبح فيه سماءها محمية سلفا من أي ضربة ذرية وساعتها ستقوم علي إجبار العالم علي أن يغير نفسه كما تريد له أن يتغير وربما تكون هذه أضغاث أحلام إمبراطورية أكثر من كونها حقائق واقعية أرضية