هل بدأ جليد عملية السلام في الشرق الأوسط التي طال تجمدها يتشقق رويداً رويداً؟ هل لنا أن نتوقع ذوباناً لتلك الثلوج قريباً؟ الذي يدعونا لمثل هذه التساؤلات هو أن الرئيس الأمريكي جورج بوش قام أثناء اجتماعه مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في الأممالمتحدة الأسبوع الماضي بإعادة التأكيد علي "رؤيته" الخاصة بإنشاء دولة فلسطينية مستقلة تعيش جنباً إلي جنب مع إسرائيل. علاوة علي ذلك، ستتوجه وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس إلي منطقة الشرق الأوسط قريباً لاستكشاف الكيفية التي يمكن لها بها تحريك الأمور. وعلي ما يبدو أن إدارة بوش بدأت تنفض عن نفسها آثار الخمول الذي وسم حركتها تجاه عملية السلام العربي- الإسرائيلي، بل يمكن القول إنها ربما تكون قد بدأت في التعرف علي حدود القوة العسكرية، والنظر في المزايا المحتملة للحوار ليس فقط بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ولكن بينها هي نفسها وبين إيران. ولكن هذا كله لا يعدو كونه محادثات تدور عن المحادثات. فليس هناك حتي الآن تلميح يشير إلي أن أمريكا مستعدة لاستخدام عضلاتها الحقيقية لتحقيق التسوية في الشرق الأوسط. أما في العواصم الأوروبية والعربية، فإن الآمال لا تزال حية في أن تتمكن "حماس" و"فتح" في نهاية المطاف من دفن أحقادهما وتكوين حكومة وحدة وطنية، توافق علي نبذ العنف، وتقبل بالاتفاقات السابقة، وتقوم -إن لم يكن صراحة فعلي الأقل ضمناً- بالاعتراف بإسرائيل، وبذلك تكون قد وفَت بالمطالب الرئيسية للمجتمع الدولي. وثمة طائفة من الإشارات الأخري التي توحي بأن هناك شيئاً يجري علي قدم وساق. فرئيس الوزراء البريطاني توني بلير، الذي يتعرض للهجوم حالياً داخلياً وخارجياً بسبب انضمامه إلي بوش في الحرب التي شنها علي العراق، وبسبب تغاضيه عن حرب إسرائيل علي لبنان أعلن مرة أخري أن أولويته هي تحقيق تسوية للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. غير أن حقيقة أنه لم يبذل سوي جهد ضئيل خلال العشر سنوات تقريباً التي أمضاها في منصبه من أجل تحقيق هذا الهدف، يجعل قيمة تصريحه الأخير في هذا الشأن، لا تزيد عن قيمة اعتراف يدلي به شخص وهو علي فراش الموت. ومن بين الدلائل الصغيرة الأخري علي وجود حركة تلك الدعوة التي وجهتها "الرباعية" لرئيس البنك الدولي السابق "جيمس وولفينسون" للعودة إلي المناطق الفلسطينية للإشراف علي إنفاق المساعدات الدولية، التي توجد إشارات علي أنها ستستأنف عما قريب. ولعلنا نتذكر هنا أن "وولفيسنون" كان قد استقال من وظيفته في وقت سابق من العام الحالي اعتراضاً علي تعليق المساعدات عقب فوز "حماس" في الانتخابات التي جرت في أبريل الماضي. علاوة علي ذلك قام الاتحاد الأوروبي، مدفوعاً في ذلك بوجود احتمال حقيقي لحدوث كارثة إنسانية في غزة، بالموافقة علي تقديم أموال للفلسطينيين علي نحو عاجل للشهور الثلاثة القادمة. في الوقت نفسه، تعرضت إسرائيل إلي ضغوط من قبل مصادر عدة منها الولاياتالمتحدة للإفراج عن أموال الضرائب الخاصة بالسلطة الفلسطينية التي كانت قد صادرتها في تاريخ سابق وتبلغ قيمتها 500 مليون دولار أمريكي. في الوقت نفسه، نسمع أصواتاً ترتفع منادية بالعودة إلي طاولة المفاوضات. من تلك الأصوات ذلك النداء الذي وجهه "جاريث إيفانز"، رئيس "مجموعة الأزمات الدولية". ففي مقاله المنشور بصحيفة "الفاينانشيال تايمز" اللندنية في العشرين من سبتمبر الحالي، دعا "إيفانز" الذي يتمتع بشجاعة كبيرة كلاً من إسرائيل والرباعية الدولية للقبول ب"حماس"، التي اختارها الشعب الفلسطيني كشريك شرعي في عملية السلام، لأن "حماس" كما كتب في ذلك المقال، "قد اكتسبت الحق الديمقراطي في تكوين حكومة". وتوجه "إيفانز" مباشرة إلي لب الموضوع، وحث إسرائيل علي تبني أسلوب المعاملة بالمثل من خلال قبول اتفاقيات مثل "خريطة الطريق"، وتحويل عوائد الضرائب وإنهاء الاغتيالات، والغارات والقصف، واستئناف المحادثات الثنائية بحسن نية. وعند هذه النقطة تحديداً تنهار جميع المحاولات الرامية لإحياء عملية السلام. فالحكومة الإسرائيلية التي يقودها "إيهود أولمرت" ليست مستعدة للدخول في مفاوضات جدية مع الفلسطينيين بل إنها في الحقيقة علي استعداد لعمل أي شيء لتجنب هذا الأمر بما في ذلك حشد أصدقائها الأقوياء في الولاياتالمتحدة ضد أي مبادرة من هذا القبيل. ولتجنب الضغط الذي يحتمل أن يقع عليه من جانب المجتمع الدولي، فإن أولمرت قد يوافق علي التقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ولكن ذلك حسب الحد الذي يريد أن يمضي إليه (أولمرت). فنتيجة للفشل الذي منيت به في لبنان وعجزها عن تحقيق الأهداف التي أعلنت أنها تنوي تحقيقها في بداية الحرب، فإن حكومة "أولمرت"، قد لا تستمر في السلطة في إسرائيل. ولكن حتي إذا ما استمرت في سدة الحكم، فإننا يجب أن ندرك أنها ضعيفة للغاية من الناحية السياسية بدرجة لا تسمح لها بالتفكير في التوصل إلي تسوية متفاوض عليها مع الفلسطينيين، لأن مثل هذه التسوية تتعارض مع أيديولوجيتها كما تتعارض مع رغبات معظم أعضائها. وبدلاً من التفكير في العودة إلي أي شيء يشبه حدود 1967 - وهو طلب أساسي من مطالب ما يعرف بوثيقة الأسري الفلسطينيين ومبادرة السلام العربية في مارس 2002- فإن إسرائيل تواصل توسعها الذي لم يتوقف في الأراضي الفلسطينية. وإذا ما شئنا الاستشهاد بمثال واحد من بين أمثلة عديدة، فإن إيهود أولمرت رخص بإجراء مناقصات بإنشاء 690 منزلاً إضافياً في مستعمرتي "معالي أدوميم"، و"بيتارعليت"، اللتين تهددان بقطع القدسالشرقية العربية عن باقي الضفة الغربية. وقد قدمت الولاياتالمتحدة اعتراضاً صورياً علي ذلك الإجراء، ولكن إسرائيل لم تعره أدني اهتمام. حقيقة الأمر إذن هي أن إدارة بوش بعيدة عن أن تكون مستعدة لرمي ثقلها وراء التسوية الإسرائيلية الفلسطينية. ليس هذا فحسب، بل إنها قامت متأثرة في ذلك ب"المحافظين الجدد" الموالين لإسرائيل، بالتقليل من أهمية أو درجة إلحاح مثل هذه التسوية باتريك سيل عن "الاتحاد"