يكاد يمضي أسبوعان علي "وقف الأعمال الحربية" بين "حزب الله" وإسرائيل. وقد دخل ألوف الجنود من الجيش اللبناني إلي منطقة جنوب الليطاني. بيد أنّ "حزب الله" ما يزالُ باقياً بسلاحه في الجنوب، والقوات الدولية ما زادت عدداً ولا عديداً كما كان مقرَّراً. والحوادثُ بين الطرفين ما تزالُ مستمرة، وهي تأتي من جانب إسرائيل في الأكثر، تارةً بالقول إنهم يريدون مَنْعَ الإمدادات عن "حزب الله"، وطوراً بأنّ "حزب الله" هو الذي بدأ، أو ودون أي تعليلٍ يقولون إنهم مستمرون في الحصار البحري والجوي، وفي الوجود في عدة أماكن داخل الحدود اللبنانية. وهناك إشاراتٌ مطمئنةٌ في الموقف اللبناني الداخلي، وفي المواقف العربية والدولية. في الموقف اللبناني الداخلي يخفُّ التشنُّج بين "حزب الله" والأطراف السياسية الأُخري. كما يبدأ التعاون بين الحزب والحكومة. فقد توقف التراشُقُ السياسي بين الحزب وجبهة 14 مارس. كما أنّ الحزب بدأ ينفتحُ علي الحكومة إن لجهة التعاون في الإغاثة والتنظيف في المناطق المتضررة؛ وإن لجهة المشاركة التدريجية في خطط الإصلاح والإعمار. ولا يبدو الحزبُ علي عجلةٍ من أمره في مسألة نزع سلاحه؛ بيد أنّ الحكومة لا تُطالبُه بذلك. ثم إنه لا يزعج وقف النار الآن بل إسرائيل هي التي تفعلُ ذلك. وما يزال رئيس الحكومة يحصُلُ علي الإجماع علي قراراته في مجلس الوزراء، كما أنّ التعاوُن بينه وبين بري ما يزال علي أشدّه. الأمريكيون الذين يستمر حماسُهُم لحماية أمن إسرائيل ولبنان معاً، والذين تبرعوا قبل أيام ب 230 مليون دولار للإعمار اللبناني، تذمروا من التردد الفرنسي، وشجعوا الإقدام الإيطالي، وإقدام بعض الأوروبيين الصغار. ولا يصرّح الفرنسيون بسبب التردد؛ بينما يقال بشكلٍ غير رسمي إنّ سببه استمرار وجود "حزب الله" وسلاحه في الجنوب. أما الإيطاليون، فيتذمرون من استمرار خرق إسرائيل لوقف إطلاق النار. ويدفعُ ذلك الأمريكيين والأتراك وآخرين كثيرين للمطالبة بقرارٍ دولي مكمِّل بعد ال 1701 يوضّح مهامّ القوات الدولية، ويحولُ دون الإساءة إليها، أو إضعافها من أحد أطراف النزاع. إنّ هذا الاختلاف حول القوات الدولية دوراً وإمكانيات، يفتح المجال علي رؤية المخاطر التي تحيط بالموقف علي الحدود اللبنانية- الإسرائيلية الآن، وفي المستقبل. فهناك احتمالٌ فعلي ألا تكون إسرائيل مهتمةً بالتهدئة أو باستقرار الحدود، ما دامت تعلم أنّ "حزب الله" لم ينهزم ولم ينزع سلاحه، وما يزال علي الحدود. إنّ ثبات "حزب الله" في وجه الجيش الإسرائيلي سيشجّع قوي أصوليةً كثيرةً أخري علي المبادرة لمهاجمة إسرائيل بالطريقة الخفية التي حاول "حزب الله" استخدامها ونجح فيها. ولذلك فإن الإسرائيليين سيوالون الضربات بحسب هذا الرأي حتي يتأكدوا من أنّ هذا الخطر لن ينال منهم من بعد، كما نال خلال شهري يوليو وأغسطس 2006. ولا شَكَّ أنّ اهتمام إسرائيل بنزع سلاح "حزب الله"، يشاركها فيه أطرافٌ إقليميون ودوليون كثيرون؛ إمّا لخوفهم علي أمن إسرائيل، أو لحرصهم علي نجاح الدولة اللبنانية في التحول نحو الديمقراطية والتعددية والاستقرار، أو أخيراً لأنّ بعضاً من هؤلاء يعتبرون حزب الله تنظيماً إيرانياً يؤثّر في أمن المنطقة العربية واستقرارها. وهذا الأمر_ أمر العلاقات الخارجية ل"حزب الله" هو الذي يدفع مراقبين عديدين لعرض السيناريوهات المختلفة لوجود الجناح العسكري في الحزب وتكتيكاته، وتأثيراته في الاستقرار ومستقبل الدولة اللبنانية ونظامها: السيناريو الأول: سيناريو استمرار التكليف "الشرعي" الإيراني، واستمرار الحاجة للاشتباك. وفي هذه الحالة، سيضطر الحزب لجرف الدولة اللبنانية أو تهميشها تماماً كما فعل خلال شهر النزاع العسكري مع إسرائيل. ولهذا السيناريو مبرراته في الموقف الحالي لإيران مع المجتمع الدولي، والذي يزداد توتراً بعد التصريحات الإيرانية المتوالية عن الاستمرار في التخصيب، واحتمال لجوء مجلس الأمن في 31 أغسطس الحالي إلي فرض عقوباتٍ علي إيران. بيد أنّ هناك مراقبين كثيرين لا يرون رُجحان احتمال هذا السيناريو. إذ هناك خطر الاشتباك مع الجيش اللبناني، ومع القوات الدولية، وحصول ضربة إسرائيلية كبيرة مرة أُخري، وزيادة الأعباء علي الشيعة اللبنانيين، وعلي الشيعة العرب. السيناريو أو الاحتمال الثاني: وهو يفترض انتهاء التكليف الإيراني للحزب، وإحلاله من مهمته العسكرية باعتبار الاحتفاظ به قوةً سياسيةً كبري في لبنان متمتعاً بهذه السمعة العطرة لكفاحه ضد إسرائيل. وقد وعدت إيران بعض الدول العربية بذلك عندما قالت كما قال بعض مسئولي الحزب إنّ هذه الحرب هي حربُ الحزب الأخيرة. وستكون نتيجةُ هذا السيناريو إن صحَّ أن يشارك الحزب في النظام والدولة بقوة، وأن يقبل بإلغاء سلاحه أو إعطائه للجيش اللبناني، وأن تنتهي دولةُ "حزب الله" القائمة منذ عشرين عاماً. وهذا السيناريو هو عكسُ السيناريو الأول فعلاً. لكنه كالأول ليس مرجَّحاً بالسرعة التي يتحدث عنها هذا الفريق الحسن النية. السيناريو الثالث والأخير: وهو يري أنّ الاحتمال الأرجح عودة الحالة بين الحزب وإسرائيل، وبين الحزب والدولة اللبنانية إلي ما قبل 12 يوليو الماضي، يوم اندلاع النزاع بمبادرةٍ من "حزب الله". ليس من المرجَّح أن تنتفي الحاجةُ الإيرانية لقوة الحزب بهذه السرعة. وليس من المرجَّح نفسياً وسياسياً أن ينزع الحزبُ سلاحَهُ بأي شكلٍ في الأمد المنظور. وفي الوقت نفسِه ليس من المرجَّح أن يأمَنَ النظام اللبناني وأن يلغي دولته لصالحه. لكنه من ناحيةٍ أخري يحتاج إلي وقف نارٍ الآن، ليس مع إسرائيل فقط؛ بل ومع النظام اللبناني أيضاً بعد هذا الزلزال الذي جرؤ عليه والذي صمد في مواجهته رغم أنه هزَّ الطائفة الشيعية، والاجتماع اللبناني هزاً عنيفاً وهائلاً. وبحسب هذا السيناريو سيستمر التجاذُب بين الحزب والنظام، وسيظل الحزب مستنداً إلي إيران وسوريا، وستبقي أمورٌ كثيرةٌ مؤجَّلةً أو معلَّقة، أي أننا سنبقي في لبنان في حالة ما بعد الحرب وما قبل الدولة ولله الأمر من قبل ومن بعد.