في الأسبوع الأول من يونيو2000, نظمت نقابة الصحفيين رحلة لعدد محدود من أعضاء النقابة من مؤسسات صحفية مختلفة, وكان من أبرزهم الراحل الكبير كامل زهيري, لزيارة الجنوب اللبناني بعد تحريره, الذي كان في عمر الزهور آنذاك لم يزد عن اسبوعين وحسب. كان هدف الزيارة هو التعرف عن كثب علي دور المقاومة اللبنانية التي تحملت العبء الاكبر والرئيس في إجبار إسرائيل علي الفرار من الجنوب اللبناني والتسليم بحريته وسيادته للدولة اللبنانية. حين خرجت إسرائيل آنذاك دون أي ترتيبات مع الجانب اللبناني, كان الامر هروبا من الجحيم وإقرارا بالفشل في جعل الجنوب اللبناني بمثابة منطقة عازلة لحماية الشمال الاسرائيلي. وفي هذه الرحلة التي استمرت يوما كاملا في عدد من قري الجنوب اللبناني, شاهدنا العديد من المظاهر والآثار التي تكشف الطبيعة القاسية للمواجهات التي حدثت طوال أكثر من15 عاما بين المقاومة اللبنانية وجنود الاحتلال الإسرائيلي, كالدبابات الإسرائيلية المعطوبة ومواقع الجيش الاسرائيلي التي أخليت علي حالها او تعرضت للتدمير. كما وصلنا مع التجمعات الكبيرة من الاهالي إلي واحدة من أقرب النقاط الحدودية مع الارض الفلسطينية التاريخية المحتلة, وهي بوابة فاطمة ذات الشهرة, والتي كانت تشهد بصورة يومية تجمعات كبيرة ومتكررة من الأهالي والزوار رافعين الاعلام اللبنانية وأعلام حزب الله وحركة أمل في مواجهة الجنود الاسرائيليين علي الطرف الآخر, ليذكروهم بأن أرض لبنان عصية علي الاحتلال وعصية علي الهزيمة. في ذلك اليوم دونت شأن الزملاء الصحفيين الكثير من الملاحظات عما شاهدناه جميعا, وكذلك ما سمعناه, سواء من مسئولين لبنانيين أو قادة محليين أو أعضاء في حزب الله كانوا موجودين في اكثر من موقع يوجهون التجمعات البشرية بالسير في اتجاهات معينة مرسومة بدقة. وبعضهم شرح لنا قصة موقع إسرائيلي تم تدميره, او عملية نوعية سواء في عمق الجنوب اللبناني نفسه او خارجه وفي عمق أرض العدو, كذلك الشروط المناسبة التي ساعدت علي نجاح عمليات المقاومين. ومما بقي في الذاكرة وفي بعض اوراق هذه الرحلة, فقد تأكد لنا أن أرض الجنوب اللبناني, وإن كانت موزعة علي تابعي أديان مختلفين بين سنة وشيعة ومسيحيين مارونيين وروم وغيرهم, إلا أن العنصر الغالب هو الخضوع لهيمنة كل من حزب الله وحركة أمل, وإن كانت النسبة لصالح الأول. كذلك فإن الحزب وعناصره لديهم القدرة علي الوصول إلي أية نقطة في الجنوب, عبر طرق معروفة وأخري غير معروفة, بعضها ظاهر للعيان والبعض الآخر غير معلوم إلا لعناصر محدودة وذات ثقة وموقع قيادي, وربما كان أنفاقا أو طرقا التفافية مؤمنة. هذه الميزات بانت أهميتها إبان العدوان الاسرائيلي علي لبنان في صيف2006, ومحاولته إنشاء منطقة عازلة بعرض من خمسة إلي عشرة كيلومترات في العمق اللبناني, وهي العملية التي باءت بالفشل وانتهت كما هو معروف بصدور القرار الدولي1701, والذي أقر توسيع مهام القوات الدولية اليونيفيل الموجودة منذ العام1978 وزيادة عددها إلي ما يقرب من13 الف جندي, تكون مهمتهم تأكيد انتهاء المظاهر المسلحة التابعة للحزب الذي بات عليه ألا يتجاوز نهر الليطاني في اتجاه الجنوب والحدود مع إسرائيل, ورصد التجاوزات من أي طرف ومنع وقوع الجنوب اللبناني فريسة لحرب أخري. كما تضمن القرار ما يعرف عسكريا بقواعد الاشتباك والقيام بدوريات وعمليات مشتركة بالتنسيق ومشاركة وحدات الجيش اللبناني التي تقرر نشرها في الجنوب تأكيدا لبسط الدولة اللبنانية سيادتها ودورها علي الجنوب ولمنع الفراغ الامني هناك. هكذا, فمنذ صدور القرار1701 في اغسطس2006 وحتي وقت قريب, تبلورت عدة معادلات; أبرزها غياب الوجود العلني والعسكري لحزب الله ولكن دون أن يعني ذلك أن نفوذ الحزب قد تأثر سلبا أو انزوي, وثانيتها أن وجود القوات الدولية لم يمنع الانتهاكات الاسرائيلية في سماء لبنان وبعض المناطق الحدودية, وثالثتها أن وحدات الجيش اللبناني التي انتشرت في الجنوب شكلت رمز سيادة الدولة من جانب, ولكنها ظلت أقل بكثير من أن تسيطر علي مجمل الأوضاع الأمنية في الجنوب اللبناني ككل, ورابعتها ان التهديدات المتبادلة بين إسرائيل وحزب الله لم تتوقف, وبعضها عكس نوعا من الحرب النفسية, والبعض الآخر كان أقرب إلي تفجير مواجهات عسكرية ضروس لولا تدخلات دولية وأمريكية قامت بتبريد المعطيات في حينه. خامستها ان إسرائيل لم تكف أبدا عن مطالبة القوات الدولية بما سمته منع تهريب الاسلحة إلي حزب الله, في حين كان رد القوات الدولية أن هذه مسئولية الدولة اللبنانية. في الاسابيع القليلة الماضية بدت هذه المعادلات, لاسيما الثلاث الاوائل وكأنها معرضة للاهتزاز, أو بمعني آخر تخضع لعملية تعديل, ولكن بطريقة غير مباشرة, وتطرح بدورها التساؤل الكبير من يفعلها أولا ويطلق شرارة الحرب.. إسرائيل أم حزب الله اللبناني؟ أخذت هذه العملية عنوانا صحفيا مثيرا يخص قواعد الاشتباك التي تحكم عمل القوات الدولية, وهل تتغير هذه القواعد ام يعاد تفسيرها في ضوء ما ورد في القرار1701 نفسه دون تعديل او حذف او إضافة. من المهم هنا التأكيد أن نجاح أي قوات دولية تابعة للامم المتحدة تعمل تحت مظلة حفظ السلام أو صنع السلام, أن يكون لديها دعم شعبي وقبول من الاهالي الذين يحتكون مع هذه القوات الآتية من بلدان وثقافات وخلفيات مختلفة, بالاضافة إلي الأسباب الاخري المعروفة من وضوح المهمة والدعم الدولي لها, وتوافر متطلبات العمل التقنية والعسكرية. وقد لوحظ أن العلاقة بين القوات الدولية وبعض أهالي قري جنوبية قد توترت وساءت, وشهدت تجمعات للأهالي ضد دوريات هذه القوات الدولية, وكثيرا ما حصل صدام مع بعض الجنود, وهنا جاء تحذير قائد القوات الدولية بأنهم بحاجة إلي حماية الدولة اللبنانية, وان تصور النجاح في بيئة محلية رافضة هو أمر غير ممكن. في تفسير ما حدث من هذه التوترات والاحتكاكات, تردد أن القوات الدولية تقوم بالتدريب دون أن يصاحبها الجيش اللبناني وفقا لما ينص عليه القرار1701, وأنها تصور اماكن ووديان معينة كوادي الحجير والسلوقي دون أن يكون لذلك صلة بالمهام الأساسية المطلوبة منها, وأن دورياتها تخترق القري الصغيرة ليلا دون داع, وترهب الاهالي. كل هذه المقولات صاحبتها حملة دعائية ركزت علي أن بعض الضباط العاملين في القوات الدولية هم علي صلة بالمخابرات الاسرائيلية, وانهم يقومون بجمع المعلومات عن الحزب وهياكله المختلفة في الجنوب لصالح إسرائيل. لكن علي الجانب المضاد, وجد المدافعون عن دور القوات الدولية باعتباره يصب في مصلحة لبنان ككل ويحمي أمن الجنوب ويمنع التورط في حرب. في خضم هذا الجدل السياسي والدعائي, ثمة امور مهمة يجب ألا نغفلها. منها أن هذه القري الجنوبية التي شهدت التوترات والاشتباكات مع القوات الدولية محسوبة بكاملها علي حزب الله, ومن هنا فإن تحركات الاهالي مهما وصفت بأنها عفوية فهو وصف غير منطقي ويجافي الحقيقة, ولذا فإن المطلوب هو وضع القوات الدولية تحت الضغط من جانب, وإعادة بناء طريقة القيام بالمهام المطلوبة منها بما يناسب ظروف الجنوب والقوي المهيمنة فيه. وهو ما ظهر من خلال ما عرف بالمصالحة بين القوات الدولية والاهالي, والتي تضمنت تحديدا أكثر لمجال التحرك المتاح لدوريات القوات وقيودا علي مناوراتها وتدريباتها الميدانية في مناطق معينة في الجنوب. وثانيها ان إسرائيل قامت بنشر ما وصفته بأنه خريطة لمخازن أسلحة تابعة لحزب الله في داخل عدد من القري والبلدات, وفي أماكن سكنية, واعتبرت أن هذا الامر ليس سوي تحذير للحزب وللأهالي معا, وأن هذه المواقع ستكون معرضة للضربات الاسرائيلية الاولي. بينما رد إعلام حزب الله بأنه جاهز تماما وأن لديه أيضا قائمة أهداف إسرائيلية سيوجه إليها صواريخه في أي مواجهة مقبلة. أو بعبارة أخري أن كل طرف هدد الآخر بأنه مكشوف تماما ومعرض للخسائر الكبري إن حدثت مواجهة عسكرية لأي سبب كان. إذا استرجعنا المقولة المكررة بأن لبنان هو بمثابة ترمومتر لقياس حرارة الوضع في المنطقة, وسحبنا الأمر علي الجنوب اللبناني بما فيه من تعقيدات كبري, لأصبح ترجيح الحرب مسألة لا مناص منها من حيث المبدأ. فإن فعلها الحزب فسيكون الهدف الأكبر هو تثبيت الانتصار الذي يري الحزب أنه حققه في مواجهة صيف2006, وإن فعلتها إسرائيل فسيكون الهدف هو الاطاحة التامة بالحزب وقدراته العسكرية المتنامية. والتدقيق في كلا الهدفين يكشف عن استحالة تحقيق أي منها, وهو ما يدركه كل من له دراية معقولة بالجنوب اللبناني من جهة, وبوضع إسرائيل الاستراتيجي الراهن من جهة أخري. فقد تحدث مواجهة وستكون حتما شديدة الوطأة علي لبنان وإسرائيل معا. غير أن النصر الحاسم أو الفوز بالضربة القاضية لن يكون سوي كابوس مفزع للجميع, فمن هذا الذي يسعي إلي نتيجة كهذه؟