ها هو العدوان الإسرائيلي علي لبنان قد أتم أسبوعه الثالث وكاد أن يقترب من إقفال شهر بكامله .وبالرغم من الخسائر البشرية والمادية الهائلة التي أوقعها ذلك العدوان بالشعب اللبناني والبنية التحتية للدولة اللبنانية، لم يتحقق أي من الأهداف الإسرائيلية الخفية أو المعلنة التي تتوخاها حكومة إيهود أولمرت من وراء هذا العدوان فلا الجنديان الإسرائيليان المأسوران لدي حزب الله قد فك أسرهما وأعيدا إلي ذويهما الناقمين علي حكومة أولمرت وحربه المجنونة غير المبررة، ولا تم الإجهاز علي مقاتلي حزب الله وتدمير بنيته التحتية، كما لم يعم السلام أو الأمن علي شمال إسرائيل، الذي ما برح يعاني الأمرين وقضت مضاجع سكانه من هجمات حزب الله وصواريخه المرعبة، مثلما بات الشرق الأوسط الجديد، الذي طالما بشرت به وزيرة الخارجية الأمريكية وبررت من أجل تدشينه دعم بلادها الكامل وغير المحدود للعدوان الإسرائيلي الحالي ضد لبنان وفلسطين، ضربا من الأوهام المتصارعة في مخيلة الأمريكيين والإسرائيليين. ومن مفارقات العدوان الإسرائيلي علي لبنان أنه قد تمخض عن مثل هذا الفشل الإسرائيلي الذريع بالرغم من توافر كافة السبل والآليات التي من شأنها أن تكفل لحكومة أولمرت بلوغ تلك الأهداف في مدي زمني قياسي، بدأ من توافر التفوق العسكري الكاسح، مرورا بالدعم العسكري والغطاء السياسي من قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي أصابت مجلس الأمن الدولي بالشلل التام فجعلته عاجزا عن اتخاذ أي موقف حاسم وموضوعي إزاء ما يجري في الشرق الأوسط، في الوقت الذي لم يتورع عن الاستئساد والتغول حيال إيران وبرنامجها النووي، إلي جانب موجة التواطؤ الرسمي عالميا وعربيا مع العدوان الإسرائيلي الذي استظل بمظلة محاربة الإرهاب والتحف بغطاء تمهيد السبل لشرق أوسط جديد يعمه السلام والاستقرار. وأحسب أن أولمرت كان أول الخاسرين في حربه غير العادلة التي خرج منها بخفي حنين ولم يجلب لبلاده سوي المزيد من المقت العالمي بسبب مجازر جيشها الوحشية التي راح ضحيتها المئات من الأطفال والنساء والمسنين من أبناء الشعبين اللبناني والفلسطيني، ونتيجة لمثل هذا الإخفاق وذلك الخزي، لم يجد أولمرت وجيشه بدا للفكاك من ملاحقة شبح الفشل وهجوم الانتقادات الحادة، سوي الإمعان في المزيد من العدوان والقتل والتدمير عساها تكون ترضية للمواطن الإسرائيلي يستعيد من خلالها بعضا من الشعور الغائب بالأمن أو الإحساس المفقود بالثقة، اللذين عجزت آلة بلاده العسكرية الجبارة عن توفيرهما ومن ثم حمله علي هجر الملاجيء التي ظل قابعا بداخلها منذ بدأ العدوان مخافة التعرض لضربات حزب الله التي انتهكت، وللمرة الأولي في تاريخ المواجهات العربية الإسرائيلية، الحرمات الإستراتيجية للعمق الإسرائيلي. وهو الأمر الذي يجعل من مواصلة الحرب بإيقاع أشد وطأة هو خيار الإسرائيليين الوحيد في تلك المرحلة الحرجة، خاصة وأنه سيكون رغم بشاعته أهون علي الحكام والمحكومين في آن من إنهاء الحرب ومن ثم التوقف للمحاسبة التي لن تكون تداعياتها بالضرورة في مصلحة أي منهم أو حتي في مصلحة الدولة العبرية رغم الأذي البالغ الذي لحق بالشعب والدولة في لبنان علي السواء. وفي غضون ذلك، لاحقت لعنة الاعتداء علي لبنان كل من سولت له نفسه التواطؤ مع حكومة أولمرت أو غض الطرف عن عدوانها البغيض. فالإدارة الأمريكية علي سبيل المثال، فقدت ما تبقي من مصداقيتها أمام الرأي العام الأمريكي والعالمي جراء دعمها الأعمي للعدوان الإسرائيلي وتقويضها قدرة المنظمة الدولية علي التعاطي الموضوعي والحاسم معه، كما سقطت ورقة التوت عن مشاريعها الوهمية التي طالما روجت لها كالشرق الأوسط الجديد الذي سيعوم في بحيرة من الديمقراطية والسلام والتنمية. ونفس الشيء تقريبا أصاب المسئولين الأوروبيين الذين حاصرتهم اتهامات شعوبهم بالتواطؤ مع العدوان الإسرائيلي والانقياد وراء مخططات أمريكية ربما لا يكون لأوروبا فيها ناقة أو جمل لأنها تصب بالأساس في المصلحة الأمريكية المتمثلة في الهيمنة علي البؤر الحيوية في العالم وإعادة تشكيلها ورسم خريطتها بما يتفق وتلك المصلحة. وإلي ذات المنزلق هوت الأممالمتحدة التي بدت كدأبها في هكذا ظرف مكبلة وعاجزة عن نصرة عضو بائس يفتك بشعبه العدوان. أما علي الصعيد الرسمي العربي، فبقدر ما أفضي تبرؤ الحكومات العربية من حزب الله وعملياته ضد الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب اللبناني إلي تعرية الحزب من شرعية المقاومة وتجريده من المساندة السياسية، بقدر ما تكبدت تلك الحكومات خسائر سياسية لا يستهان بها جراء مواقفها تلك، حتي إنه كان من بين الطرف التي طفت علي سطح الحرب المستعرة في الجنوب اللبناني، أن أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت أن بلاده تخوض حربا جديدة ضد دولة عربية لكن هذه الحرب، التي قد تكون السادسة، تحظي في ذات الوقت بما يشبه القبول الرسمي من قبل باقي الدول العربية. وكانت تصريحات أولمرت في هذا الخصوص تنسجم والنهج الإسرائيلي الرامي إلي تعرية الأنظمة العربية، التي قد تغض الطرف عن الانتهاكات الإسرائيلية أو تمد جسور التواصل مع الدولة العبرية في وقت لاتزال أراض وشعوب عربية ترزح في أغلال احتلالها العسكري وتكابد أهوال ممارساتها الوحشية وغير الإنسانية، في حين لم تحرك الأنظمة العربية ساكنا وضنوا علي اللبنانيين حتي ببيانات الشجب والإدانة، فلم يبق لهم سوي موقف متخاذل اتشح بمسحة من الانبطاح وشيء من المهادنة وكثير من عدم الاكتراث والتذرع وتبرير السلبية التي بدت وكأنها مزمعة سلفا. وأحسب أن أولمرت قد عمد من وراء هذه التصريحات المستفزة إلي توظيف هذا الموقف الرسمي العربي المخزي بغية تحقيق حزمة من الأهداف والغايات، لعل أبرزها، تعبئة القوي السياسية المختلفة والرأي العام الداخلي في إسرائيل خلف حكومته وحشد تأييدهم لعدوانها العبثي وحربها الفاشلة حتي الآن ضد عدو هو الأهون لكنه الأكثر عنادا والأمضي عزيمة والأشد صمودا. حيث يرمي أولمرت إلي إسكات الأصوات الإسرائيلية الرسمية والشعبية المعارضه لحربه غير الناجعة وغير المتكافئة ضد أطفال ونساء وشيوخ لبنان محاججا إياهم بأن الحكومات العربية ذاتها تعتبر ما تقوم به إسرائيل من عمليات عسكرية ضد حماس وحزب الله حربا ضد الإرهاب والتطرف والعناصر المهددة للاستقرار والسلام في منطقة الشرق الأوسط. علاوة علي ذلك، يحاول أولمرت أن يغازل الرأي العام العالمي، الذي ما برح يعيد النظر في حرب إسرائيل ضد لبنان في أعقاب مجزرة قانا الثانية، إذ يحاول أولمرت أن يؤكد للعالم أن ما قد يطالعونه عبر شاشات بعض محطات التلفزة بشأن ضحايا عملياته العسكرية من النساء والأطفال اللبنانيين إنما هو قربان الحرب المقدسة ضد معاقل الإرهاب المتمثل في حزب الله، المصنف أمريكيا وإسرائيليا علي أنه منظمة إرهابية. وإضافة إلي ذلك كله، يتطلع أولمرت إلي تأليب الرأي العام في العالم العربي ضد أنظمته الحاكمة التي بدت من وجهة النظر الشعبية متخاذلة ومنبطحة حيال العدوان الإسرائيلي المتغول ضد بلد عربي جل ما اقترفه هو احتضان أراضيه لرجال المقاومة المسلحة ضد المحتل الإسرائيلي، الذي يأبي غروره وترفض غطرسته أي صوت يتحداه أو يتصدي لجبروته. ومن شأن إعلان رئيس الحكومة الإسرائيلية أن عدوانه علي لبنان يحظي بمباركة الأنظمة العربية، أن يفضي إلي توسيع الفجوة بين تلك الأنظمة من جهة وبين الشعوب العربية التي تنوء بحكمها المؤبد لها من جهة أخري، خاصة بعد أن بدت تلك الأنظمة وكأنها دمي في أيدي أولمرت يحركها أينما وكيفما شاء لتبرير عدوانه الوحشي علي أركان غالية من الجسد العربي المهيض الجناح. وبينما خرج معظم اللاعبين الأساسيين في العدوان الإسرائيلي علي لبنان هذه المرة يجرون أذيال الخزي والعار ويرزحون في أغلال الخسارة، خرجت قوي المقاومة الباسلة المتمثلة في حماس وحزب الله تعانق الجماهيرالعربية ملوحين بعلامة النصر بوصفهم رموزا للصمود في وجه العدوان وملاذ الأمة الأخير في الذود عما تبقي من كرامتها.