علي الرغم من أن الوقت قد مضي كثيراً جداً علي هذا الاقتراح المتأخر، إلا أنه كان في وسع إسرائيل الاستعانة بأحد أصدقائها في المراحل المبكرة من حربها الدائرة علي "حزب الله". وكان في وسع ذلك الصديق القول لكلا الطرفين: حسناً أنا أفهمكما.. ولكن كفي كفي. وكان من المفترض أن يكون هذا الصديق الولاياتالمتحدةالأمريكية ولا أحد غيرها. وليس ثمة صعوبة في فهم العهد الذي قطعته إسرائيل علي نفسها بالرد علي الهجمات الاستفزازية غير المبررة التي شنها عليها "حزب الله"، وأن تثور فيها جميع مراجل الغضب والإحباط المتراكمين عبر السنين، ما دفعها إلي محاولة استئصال ما تراه تهديداً إرهابياً مباشراً لها، مرة واحدة وإلي الأبد. يذكر أن المواطنين الإسرائيليين ظلوا علي الدوام ضحايا محتملين لمثل هذه الهجمات، سواء كانوا داخل منازلهم أم يتسوقون في الأسواق والمراكز التجارية، أم كانوا يستقلون الحافلات في طريقهم للدراسة أو العمل، أم كانوا يحتفلون بزواج صديق أو حبيب لهم. وكمثال واحد علي هذه السلسلة التي لا تنتهي من المهددات والعمليات هذه فيما يبدو، فقد منع حارس أمني إسرائيلي أحد الانتحاريين الفلسطينيين من الدخول إلي مركز تجاري. غير أن ذلك الانتحاري فجر نفسه علي أية حال، مما أسفر عن مصرعه ومصرع الحارس الذي عرقل دخوله، إلي جانب أربعة آخرين لا ذنب لهم البتة في تلك العملية. علي أن إزهاق أرواح المدنيين الأبرياء، سواء كان علي يد مقاتلي "حزب الله" أم تنظيم "القاعدة" أم الجيش الإسرائيلي أم القوات الأمريكية في العراق إلي آخره، يبقي جرماً شائناً وبشعاً، ويجب عدم التسامح معه بأية حال من الأحوال. ولهذا السبب فإنه لا يجوز مطلقاً للأمم المتحضرة، أن تلتزم الصمت ومقاعد الفرجة واللامبالاة بينما يجري ذبح المئات من المدنيين الأبرياء أمام عيونها مباشرة، إلي جانب تشريد الآلاف منهم وترويع شعب بكامله بأدوات الهدم والقصف والدمار، علي نحو ما تفعله إسرائيل بغاراتها الشرسة المتواصلة علي لبنان. ولكي لا تختلط الأوراق مع بعضها البعض، فإنه يلزم التمييز القاطع بين ملاحقة ومنازلة "حزب الله" عسكرياً من جانب، والذبح العشوائي لمئات المدنيين الأبرياء، بمن فيهم النساء والأطفال الذين لا ذنب لهم ولا أدني صلة ب"حزب الله" وأهدافه ومراميه من الجانب الآخر. وعليه فقد كان ينبغي علي الولاياتالمتحدةالأمريكية أن تهمس في أذن صديقتها إسرائيل قائلة "اسمعي.. فقد آنت لحظة وقف المذابح وحمامات الدماء. كفي عن هذا، فسوف نجد طريقة أفضل لحل النزاع دون شك". لكن وبدلاً من ذلك، فقد آثرت إدارة بوش الفرجة واللامبالاة إزاء إسرائيل السادرة في دمائها وغيها حتي الأذنين، والماضية في مواجهة لا تلوح بارقة أمل قريب لنهايتها علي نحو إيجابي فيما يبدو. وبالنتيجة فقد تحولت لبنان إلي خراب وحطام، مع العلم أنها كانت إحدي المنارات والقناديل النادرة المضيئة في المنطقة. وحتي في حال تقليم أظافر "حزب الله" وتركيعه علي النهج الذي يريده الأمريكيون، فإن الظروف المحيطة تبدو مواتية جداً لبروز أجيال جديدة من الراديكاليين المتشددين، والشباب المتحمسين لحمل السلاح والتقدم حثيثاً لسد الفراغ. ولنذكر هنا أنه وعندما اجتاحت القوات الإسرئيلية لبنان لأول مرة في عام 1982، فقد كانت قوات "فتح" وشبابها المنضوون إلي مختلف جماعات حروب العصابات، وشن المناوشات والمعارك الصغيرة المتفرقة أقوي مقاومة في وجهها وقتئذ. لكن وما أن انسحبت القوات الإسرائيلية من هناك بعد 18 عاماً، حتي تركت وراءها ميليشيات أقوي وأكثر تدريباً وتنظيماً وعزماً، ممثلة في "حزب الله"، الذي لم يختف من لبنان لحظة الاجتياح الإسرائيلي. تعليقاً منه علي ما يجري الآن، قال "جوزيف سيرينسيون"_ خبير شئون الأمن القومي وأحد مؤيدي إسرائيل بمركز " أيركان بروجريس" بواشنطن- "لا ريب أن "حزب الله" هو الذي أشعل نار الأزمة الراهنة، وأنه يحق لإسرائيل أن ترد علي اعتداءاته وهجماته عليها، حتي وإن دعا ذلك تخطي حدودها السياسية الجغرافية إلي داخل الأراضي اللبنانية. بيد أن إسرائيل مضت في حملتها هذه أكثر مما ينبغي لها أو يجوز، بقتلها وإزهاقها أرواح مدنيين أبرياء لا ذنب ولا علاقة لهم من بعيد أو قريب مع حزب الله". وبحكم صداقتها الوطيدة مع إسرائيل، فإن من واجب الولاياتالمتحدة الأميركية أن تبذل قصاري جهدها من أجل إيجاد حلول ناجعة وأكثر فاعلية للمشكلات الأمنية التي تواجهها تل أبيب مع جيرانها العرب. وبما أننا ندعو لإيجاد حلول كهذه في ظل الأزمة الراهنة، فإن الواجب أن تكون الخطوة الأولي في هذا الاتجاه، التوصل إلي وقف فوري لإطلاق النيران. ولكن المشكلة في فريق بوش أن الكثيرين منه يعارضون هذه الفكرة ويبدون حماساً زائداً لاستمرار الحرب. وهم بذلك إنما يؤيدون إسرائيل تأييداً أعمي فاقداً للبصر والبصيرة. وليس هذا بسلوك الصديق الحادب علي أية حال. ذلك أنه ليس في وسع إسرائيل ولا الولاياتالمتحدة الأميركية إبادة أكبر قدر من العرب والمسلمين حتي يتسني لهما الفوز بحربهما علي الإرهاب. ولتعلم إسرائيل أن ما يلزمها في المنطقة، أنظمة وحكومات مستقرة ومعتدلة. وهذا هو عين السبب الذي يصعب معه فهم الدوافع التي دعتها لإلحاق كل هذا الخراب والدمار بالحكومة اللبنانية المنتخبة ديمقراطياً! فهل هذا هو السبيل لتحقيق استقرار المنطقة وأمنها وسلامها؟