مضي علي الحرب بين إسرائيل ولبنان (حزب الله) أكثر من عشرة أيام وهو وقت كاف لتقييم ما يجري من الناحية العسكرية والتي لا يمكن فصلها بطبيعة الحال عن خلفية الحرب السياسية. اندلعت الحرب في أعقاب عمل عسكري قام به حزب الله نجح من خلاله في أسر جنديين إسرائيليين وقتل ثمانية. ومن هذه البداية المثيرة، والتي يمكن تصنيفها تحت بند "العمليات الخاصة"، اشتعلت الحرب بين الطرفين في صورة قصف متبادل بالذخيرة الحية للأهداف المدنية والعسكرية. "النيران" إذا هي الوسيلة الوحيدة المستخدمة حتي الآن في هذه الحرب، ولم يحدث منذ معركة البداية اشتباك آخر "بالقوات" بين الجانبين. وبشكل عام، وبصرف النظر عن التفاصيل الدقيقة لأية معركة عسكرية، من الممكن اختزالها إلي نشاطين رئيسيين: الأول "المناورة بالقوات"، والثاني "المناورة بالنيران". ويقصد بتعبير "المناورة" هنا كيفية توظيف عنصري "النيران" و"القوات" معا من أجل تحقيق النصر في المعركة. في الماضي، قبل اختراع البارود والمواد المتفجرة، لم يكن هناك إلا البشر وما يمكن أن يصدر عن مهاراتهم وقدراتهم العضلية في استخدام السيوف والرماح والسهام.. إلخ لكن التكنولوجيا أضافت بعد ذلك عنصرا جديدا مستقلا عن البشر في المعركة وهو "النيران" في صورة طلقات رصاص ودانات مدفعية وقنابل طائرات وصواريخ وغير ذلك من أنواع التأثير علي الهدف. في المواجهة الحالية بين حزب الله وإسرائيل نحن أمام معركة تلعب فيها النيران دورا رئيسيا، وهذا يعني أن كل طرف يعتمد علي وجود مخزون كاف من الذخائر في صورة قنابل وطلقات مدفعية وصواريخ بأنواعها المختلفة. وبشكل عام تُقيم الذخيرة بنوع التأثير عند الهدف (قد ينتج من الذخيرة شظايا أو موجة انفجارية، أو موجة حارقة أو غازات كيماوية سامة أو تشكيلة من كل هذه الأنواع). وتقيم الذخيرة أيضا بالمدي الذي يمكنها الوصول إليه، وبالوزن، وبدقة إصابة الهدف، وهنا يظهر الفارق بين الذخيرة الموجهة وغير الموجهة. وفي مثل هذه المعارك التي يقتصر فيه الاشتباك علي المناورة بالنيران يكون استهلاك الذخيرة عاليا، ويكون زمن المعركة فيها عادة أطول، لأن المناورة بالأفراد تحسم المعارك بقدرة الأفراد علي احتلال المكان و"إسكات" مصادر النيران. لذلك يكون الإمداد بالذخيرة مهما للغاية في مثل هذه المعارك وهنا يدخل البعد السياسي علي الخط. فإذا لم يكن هناك قدرات ذاتية صناعية لإمداد الجيش بالذخيرة فلا بد من الاعتماد علي طرف خارجي للقيام بهذا الدور. بالنسبة لإسرائيل يمكن القول أن تنويعة النيران عندها أوسع بكثير مما هي عند حزب الله. فالتنوع يعطي متخذ القرار فرصة اختيار النيران المناسبة لنوعية الهدف. ويظهر الفارق بين إسرائيل وحزب الله في مجال الطيران، فلم يعرف حتي الآن أن حزب الله يمتلك طائرات عسكرية. ميزة الطائرة أنها تستطيع حمل كمية كبيرة من الذخيرة وتوصيلها إلي مدي بعيد، كما أنها تضمن درجة عالية من الدقة لأنها ببساطة تلقي بحمولتها فوق الهدف مباشرة. لكن يمكن إسقاط الطائرة بالمدافع أو بالصواريخ المضادة للطائرات أو بالطائرات المقاتلة. وحتي الآن لا يمتلك حزب الله طائرات، ولا يمتلك أيضا وسائل فعالة للدفاع الجوي. والأقرب إلي الحدوث أن ينجح حزب الله في الحصول علي صواريخ مضادة للطائرات من سوريا أو طهران أو أي مصدر آخر خاصة أن كثيرا من الجماعات تمتلك مثل هذه النوعية من الصواريخ منذ فترة الحروب الأفغانية ضد السوفييت. ويرجع حجم التدمير الواسع في لبنان إلي عدم امتلاك حزب الله لوسائل دفاع جوي مناسبة. يعتمد حزب الله في المقابل علي استخدام الصواريخ أرض-أرض، ويمتلك منها أعدادا كبيرة. والأنواع التي في حوزته يمكنها الوصول إلي أهداف قريبة وبعيدة في عمق إسرائيل، وقد وصل بعضها بالفعل إلي مسافة تقترب من 70 كيلومتر من الحدود اللبنانية. وحجم تأثير الصاروخ عند الهدف يتوقف علي حمولة الصاروخ من المواد المتفجرة وعلي دقته في الوصول إلي الهدف وليس بعيدا عنه. لذلك يزيد التأثير في الأماكن المزدحمة والأهداف كبيرة الحجم مثل محطات القطارات وأرصفة المواني والمصانع الكبيرة والأماكن السكنية المزدحمة. لكن من الصعب استخدام الصاروخ لتدمير كوبري مثلا أو جسر يربط مكان بمكان آخر أو ضفتي نهر فلن تكون النتيجة مضمونة وتحتاج إلي عدد كبير من الصواريخ، والطائرات أفضل كثيرا في تدمير مثل هذه الأهداف. العامل النفسي له دور كبير في الحروب التي تعتمد أساسا علي المناورة بالنيران. وبرغم أن الصواريخ لا تحدث أثرا عسكريا عظيما إلا إذا كانت موجهة ضد أهداف عسكرية (مثل مراكز القيادة، وعقد الاتصالات، ومناطق حشد القوات) إلا أن استخدامها في المناطق المدنية يمثل نوعا من "البلاء" الذي ينتظر الناس وقوعه في أي لحظة فينتج عنها آثار نفسية كبيرة تكون ضاغطة علي متخذ القرار السياسي. لذلك تحاول إسرائيل إعلاميا التقليل من آثارها وإبعاد وسائل الإعلام عن المناطق التي أصيبت بها. وتجربة "حرب المدن" بين بغداد وطهران في الحرب العراقية-الإيرانية حيث لعبت الصواريخ الباليستية دورا رئيسيا تدل علي أن استخدام الصواريخ ضد المدنيين قد لا تحسم حربا ولكنها قد تقربها من حالة الإنهاك واللجوء إلي الوسائل الدبلوماسية. السمة الثانية في معركة إسرائيل وحزب الله، بجانب أنها تقتصر حتي الآن علي المناورة بالنيران، أن المدن تعتبر هدفا رئيسيا لها. والمدينة - وطبقا لاسمها- هي مقر المدنيين وبالتالي فإن معظم الخسائر سوف تنحصر في البنية الأساسية وسكان هذه المدن. طبيعة المدن أنها هدف رخو ماديا وسيكولوجيا خاصة إذا تم التعامل معها بالنيران فقط فليس مطروحا عليها حتي خيار الاستسلام وإيقاف الجحيم المتساقط عليها. والقانون الدولي يحرم ضرب المدن والمدنيين العزل، لكن طبيعة الحرب تغيرت مع تزايد الاعتماد علي وسائل "التأثير عن بعد" باستخدام الذخيرة الموجهة بعيدة المدي من أجل تحاشي الدخول في معارك برية وتقليل خسائر العسكريين. وهكذا فعل كلينتون في حرب كوسوفو حيث ظل سبعون يوما يمطر يوغوسلافيا بالصواريخ حتي استسلمت بدون أن يموت له جندي واحد. من الناحية الفنية تقوم المناورة بالنيران علي عدد من العمليات الأساسية تبدأ برصد الأهداف المحتمل ضربها وتصنيفها. ويستخدم في ذلك وسائل الاستطلاع البشري والجوي. وبالنسبة لإسرائيل فقد كان المجال الجوي اللبناني أمامها مفتوحا للتصوير والرصد، كما أنها لم تعدم وسيلة الاستطلاع البشري المباشر علي الأرض. وفي الماضي كان هم وسائل الاستطلاع الإسرائيلية رصد تحركات القوات السورية الموجودة في لبنان، وأيضا محاولة التعرف علي أية نوعية جديدة من الصواريخ تكون قد وصلت إلي قوات حزب الله. وبشكل عام كان هناك افتراض أولي عند الإسرائيليين بأن ما تمتلكه طهران يمكن أن يصل إلي أيدي حزب الله خاصة في مجال الصواريخ. ومن ناحية حزب الله فقد كان يقوم بشكل مستمر برصد الأهداف علي الجانب الإسرائيلي. ولاشك أن الطبيعة الجغرافية لتلك المنطقة المزدحمة بالمدن والمتمركزة في الشمال من إسرائيل بالقرب من الحدود اللبنانية، قد ساعد حزب الله علي القيام بعمليات استطلاع مستمرة علي الجانب الإسرائيلي معتمدا في ذلك علي الاستطلاع البشري المباشر. وقد نجح حزب الله أكثر من مرة في استخدام طائرات بدون طيار في الوصول إلي مدن شمال إسرائيل والبقاء فوقها لفترة قصيرة قبل العودة إلي جنوب لبنان. بعد رصد الأهداف يجري تصنيفها وإعطاء كل هدف أولوية معينة في التدمير. ونتيجة أن مسرح العمليات مدني بطبيعته فإن تحديد أولويات التدمير تخضع في بعض الأحيان لقرار سياسي قبل أن يكون عسكري. والخلاصة أن إسرائيل وحزب الله قد أعدا منذ فترة سابقة قوائم بالأهداف والأسلوب المناسب لتدميرها وأولويات التدمير. وهذه القوائم يتم التصديق عليها من رئاسة الدولة وليس فقط من القيادة العسكرية، والسبب أنها أهداف مدنية لها مدلولات سياسية قبل أن تكون عسكرية. وفي بعض الأحيان، وداخل القائمة نفسها، قد توجد أهداف معينة ذات أهمية خاصة يجري التصديق علي ضربها قبل الضرب مباشرة حتي ولو كانت القائمة التي تشملها قد تم التصديق عليها من قبل. وهذا الأسلوب ينطبق علي حزب الله كما ينطبق علي إسرائيل.