تتوقف الطائرة علي أرض مطار القاهرة قادمة من عاصمة الضباب تحمل جثمان " العندليب "بعد رحلة علاج لم تكلل بالنجاح ، وتقع الأعين علي الجثمان ملفوفا بعلم مصر فيستدعي المشهد الأحزان علي شقيق فقدناه أوأب افتقدناه ، وتتسع الدائرة فتري في " حليم " أحمد زكي وبليغ حمدي وصلاح جاهين والموجي وكل رموز الوطن التي رحلت عن دنيانا ، ونجح الفيلم في تذكيرنا بها ، وتجسيدها في شخوص حية تتحرك أمامنا علي الشاشة ولا تملك ، وأنت تراها ، سوي أن تترحم عليها .. وعلي زمن ولي كان يذخر بالحياة وحب الوطن . هكذا فعل بنا فيلم " حليم " علي مدار ثلاث ساعات طاف بنا خلالها في رحاب الوطن عبر سيرة مزدوجة بطلها علي أرض الواقع " حليم " وعلي الشاشة أحمد زكي ؛ الذي تطابقت حياته مع " العندليب " حتي تكاد تظن أنهما " توأم " فرقت بينهما الأعوام ، وجمعهما المرض والإرادة القوية في تجاوز واقع قاس منحهما الشهرة والنجومية وضن عليهما بلحظة دفء ينعمان فيها بحب يدوم وحياة عاطفية لا تخلو من منغصات . وربما لمجمل هذه الأسباب رأي أحمد زكي نفسه في سيرة حياة " حليم " وتشبث بحلم أن يجسده علي الشاشة ، وعجز عن تحقيق الحلم بماله الخاص ، وجاءت شركة " جود نيوز " لتتصدي للمشروع ، وفي تلك اللحظة بدا وكأن " زكي " أيقن أنه لا يريد من الدنيا شيئا بعدما تحققت الأمنية ، أو الحلم المستحيل ، فأسلم الروح.. وفارق الحياة دونما انتظار ليري ثمرة ابداعه . هنا لا يستطيع عاقل أن يتجاهل الدور الكبير الذي لعبه المخرج شريف عرفة في تحقيق هذه الأمنية الغالية ، بحنكته الفائقة ، وقدرته العبقرية علي لملمة أوصال فيلم كان يمكن أن يحكم عليه بالإعدام من قبل أن يري النور ، بعد المرض المفاجيء لبطله ثم الرحيل المتوقع له الأمر الذي دفع الكثيرين للشعور بالشفقة تجاه شريف عرفة ، الذي وجد نفسه في ورطة لا يحسد عليها ، ولا يتمناها أشد الناس كرها وعداوة له ، باستثناء أولئك الذين استبقوا الأحداث ، واستبدلوا الحبر بالحقد وراحوا يسطرون كلمات تقطر غلا وتشفيا وخانوا أنفسهم ، قبل جمهورهم ، لما أشاعوا اننا لن نشاهد فيلما وانما عملا ركيكا تاجر أصحابه بأحمد زكي حيا وميتا ، وزعموا ، بعد عرض الفيلم في مهرجان " كان " أن الشركة المنتجة لجأت الي استغلال لحظات مرضه ، ثم جنازته ، أبشع استغلال ، وبالغوا بالقول أن " حليم " تحول الي برنامج تليفزيوني لا يمت بصلة للفيلم السينمائي في صورته المعهودة ، وجاء عرض الفيلم لينسف هذه الدعاوي الزائفة ، ويسقط كل المزاعم الباطلة التي تعكس حقدا دفينا استهدف أحمد زكي حيا ، وواصل الثأر منه ميتا ، ولم يبال صاحبها بقول العزيز الحكيم : " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه " صدق الله العظيم . ألم يفكر الناقم ، الذي لا يستحق أبدا وصف الناقد ، أن " حليم " سيعرض في مصر ، ووقتها ستتهاوي أكاذيبه ، وتنكشف ألاعيبه ، وترتد سهامه المسمومة الي صدره ، بعد أن يشاهد الناس " حليم " علي الشاشة ، وليس العمل الملفق الذي كتب عنه مدفوعا بخياله المريض، وربما دون أن يراه علي الاطلاق ؟! هذا ماحدث بالضبط ؛ اذ شاهدنا أنشودة رومانسية غلفها الحب والشجن ولم تفارقها غلالة الحزن الرقيقة التي اكتست بها الشاشة طوال مدة العرض ، وأشهد انني دخلت الفيلم مدفوعا بالدعاية السلبية التي سبقت عرضه ، ولم يفارقني الشعور بانني مقبل علي " كارثة " تستحق أن نبتهل بعدها بالدعاء " ارحموا عزيز قوم رحل " ، واذا بي حيال عمل فني توافرت فيه كل عناصر الفيلم الرائع ، اذا مانظرنا الي الظروف التي تزامنت مع تصويره ، والدليل علي هذا أن الكاتب محفوظ عبد الرحمن ؛ الذي زعم البعض انه تبرأ من الفيلم لأن المخرج شريف عرفة أساء الي السيناريو الذي كتبه ، كان أول من اعتلي منصة التتويج عقب عرض الفيلم ليتلقي مع أسرة الفيلم تهنئة الجمهور الغفير الذي لم يفارق مقاعده ، علي الرغم من الساعات الثلاث التي دارت فيها الأحداث ، ولم يكتف بهذا بل ألقي كلمة أهدي فيها نجاح الفيلم الي روح أحمد زكي . وأكبر الظن انه ماكان ليفعل هذا لولا نظرات الاعجاب وحفاوة المشاعر التي قوبل بها الفيلم ، ودفعته للزهو والفخر بأنه صاحب دور في هذا الانجاز السينمائي ؛ وأتصور انه وجد العذر لشريف عرفة في أن يضع سيناريو خاصا للفيلم حاول جاهدا أن يتخلص فيه من المأزق الصعب الذي واجهه باشتداد المرض علي بطله ثم رحيله عن دنيانا ، وضرب أروع مثال علي التحايل الفني ، وليس الدرامي فحسب ؛ فاستثمر المشاهد التي صورها أحمد زكي بحيث لا تشعر بفراقه ، ولجأ الي حيلة " عبقرية " عندما اختار توظيفها عبر حوار طويل بين " حليم " والمذيع " رمزي " أدي الدور بتمكن النجم السوري جمال سليمان فأمكن له اجتياز العقبة الصعبة ، ونجح في الانتقال عبر " الفلاش باك " ، عقب سقوطه مغشيا عليه بعد غنائه " رسالة من تحت الماء " ، والاستخدام الذكي للمقطع الذي يقول فيه " لو أني أعرف خاتمتي ماكنت بدأت " ، الي أهم محطات حياته بدءا من دخوله الملجأ ، بعد وفاة أمه عقب ولادته وضيق ذات يد خاله في مشهد انساني مؤثر للغاية ، وبداية بزوغ نجمه بعد اجتياز اختبار لجنة ضمت يومها عبد الوهاب وأم كلثوم وآخرين، وهي المشاهد المتتابعة الخاطفة التي غلب عليها الحس الانساني ولم تختف عنها اللمسات الحانية للمخرج شريف عرفة ( انظر مشهد القطار وعبد الحليم يتأمل طفلا يعيده فورا الي سنوات الملجأ ) وبدايات مشوار العذاب مع الأصدقاء كمال الطويل والموجي ومجدي العمروسي ( انظر التوظيف الرائع للأغنية النادرة " في سكون الليل" تأليف امام الصفطاوي وألحان علي اسماعيل ) وطوال الوقت يفاجئك الفيلم بوثائق نادرة إحداها ليوسف وهبي وهو يتحمل علي مسئوليته الشخصية تقديم الموهبة الشابة " حليم " في حديقة الأندلس ، وجمال عبد الناصر مع الضباط الأحرار في احتفالات الثورة ينصتون باستمتاع لأغاني عبد الحليم وأم كلثوم والصورة الموحية بالكثير في القطع بين زيارة " حليم " لبيت الطالبات وفرحتهن به وذكرياته في الملجأ وكذا استعادة فرحته بالمطر وهو علي فراش المرض في لندن ، واختيار شريف عرفة لزاوية كاميرا بدا منها وكأن السماء تدمع وتنبيء بقرب رحيله ناهيك عن الاستخدام الاسطوري للجرافيك في مشاهد المزج بين هيثم وحليم في افلامه الشهيرة (أيامنا الحلوة ولحن الوفاء). لكنك لا تملك مع هذا سوي أن تتساءل عن اغفال لحظة جوهرية في حياة " حليم " تلك التي اختار له فيها الاذاعي الكبير حافظ عبد الوهاب أن يحمل اسمه " حافظ " بدلا من " شبانة " ، وان كنت تضع العذر لصناع الفيلم في مرورهم العابر ، والمخل أحيانا ، علي شخصيات أثرت كثيرا في حياة " حليم " كبليغ حمدي والأبنودي ومحمد حمزة وتحول البعض الآخر الي أطياف لأشباح تلمح من بينها : احسان عبد القدوس وكامل الشناوي ومصطفي وعلي أمين ومحمد حسن الشجاعي ، وإن أفرد الفيلم مساحة لا بأس بها لصلاح جاهين ؛ خصوصا في اللحظة التي أعقبت هزيمة يونيو67 ، والتي بدا أنها كانت سببا في اكتئاب " جاهين " ؛ نتيجة لاحساسه العميق بأنه أسهم في خداع الشعب المصري بكلماته التي تغنت بالثورة ، وروجت لأفكارها وشعاراتها ، قبل أن يستيقظ الكل علي الهزيمة النكراء ؛ فالتكثيف والايجاز كانا سببا في تهميش بعض الشخصيات المحورية بعكس ماحدث في الجزء الخاص بعلاقات عبد الحليم العاطفية ، التي اختار منها الفيلم المناطق المجهولة ، ربما ليهرب من المساءلة القانونية أو مطاردة الورثة ، فأفرد مساحة كبيرة لحبه الوحيد المجهض السورية سلاف فواخرجي في أداء يفيض بالرومانسية والفتاة الشابة التي تعلقت به وظنت انه أحبها مني زكي - في دور اجتهدت لتكسبه رونقا دون جدوي بينما اختلف الوضع تماما في حال علاقته الشهيرة والمعروفة مع سعاد حسني ، التي لم تحتل من الفيلم سوي مشهد واحد كان من الممكن حذفه دون أن يشعر أحد بافتقاده . بالطبع لم يخل الفيلم من ايماءات لا تخلو من دلالات ؛ كالعلاقة المشوبة بالتوتر بين " حليم " وعبد الوهاب ؛ التي بدا معها وكأن الأخير يستميل " حليم " ليؤمن نجاحه بعيدا عنه ، وهو مااستشعره بطلنا كثيرا ، وبلغ التوتر مداه في اللحظة التي تصور فيها " عبد الوهاب " أن نفحة من المال يمكن أن تعوض " حليم " مايلقاه من عنت بسبب مطالبة الناس له بأن يكون نسخة من " الأستاذ " فأساء اليه كثيرا. وهنا لا تستطيع أن تتغافل عن رد الفعل الذي استقبل به الجمهور أداء عزت أبو عوف في محاكاته للأصل من حيث المخارج اللفظية التي عرف بها عبد الوهاب حتي تحول ظهوره الي " مسخرة " ، ومن بين الايماءات التي حفل بها الفيلم ، ولا يعرف أحد حقيقة ماانتهيت اليه محاولته الايحاء بأن ماحدث من تخريب في حفل عبد الحليم الذي غني فيه " قارئة الفنجان " كانت وراءه أطراف منافسة ترك الفيلم للقاريء الفطن مهمة التوصل اليها لكن القطع علي المذيع ، وهو يحاور " حليم " حول واقعته الشهيرة التي أدت الي خلاف كبير بينه وبين أم كلثوم ، بدا وكأنه محاولة لوضع اجابة حاسمة ، علي الرغم من أن " حليم " غني " قارئة الفنجان " في 1976 أي بعد عام من رحيل أم كلثوم ، وهو لغط تسبب فيه " المونتاج " داليا الناصر والمخرج شريف عرفة الذي تجاهل في مقاطع كثيرة من الفيلم الالتزام بالتسلسل الزمني للأحداث فكانت النتيجة أن بلغ بنا الذروة في المشاهد التي تروي علاقة " حليم " بثورة يوليو وعبد الناصر ، وهي أجمل مواطن الفيلم في ايقاعها اللاهث وشحنة التوتر المحبب التي حملتها في ثناياها ، وصولا الي علاقته المحايدة بالرئيس السادات ؛ الذي اكتفي بأن غني له " عاش اللي قال" ، وفجأة يعود بنا الفيلم ، عقب خطاب السادات أمام مجلس الشعب عقب انتصار 1973، الي ( منزل حليم 1966 ) مما تسبب في ارتباك عملية التلقي بشكل كبير ، وأعاد المتفرج الي الوراء ليتابع العلاقات العاطفية في حياة " حليم " ، التي لم تكن بسخونة واثارة مشاهد الستينيات ، كتنصيب عبد الناصر رئيسا وقرار التأميم وهزيمة يونيو وخطاب التنحي، وهي المشاهد التي شكلت مساحة من التعاطف مع عبد الناصر لم تفلح مشاهد الهزيمة في محوها ، بل جانب التوفيق الفيلم في ايحائه بأن الشعب ممثلا قي صاحب القهوة محمد شومان فقد الثقة في عبد الناصر عندما أسكت صوت المذياع و" حليم " يغني " أحلف بسماها وترابها " ؛ ففي تلك اللحظة تحديدا تمسك الشعب بزعيمه بوصفه السبيل الوحيد لتجاوز الهزيمة ، والدليل علي هذا المظاهرات التي عمت الشوارع وقتها ، وعبر عنها يوسف شاهين بصدق في فيلمه الشهير" العصفور " ، والتي طالبت عبد الناصر بألا يتنحي ، الأمر الذي جعل مشهد اسكات المذياع يمثل صدمة وخارج السياق بعكس ماحدث من عذوبة في توظيف " موال النهار " في مشهد انساني مؤثر بدأ بصدمة الاستشهاد وانتهي بلمسة علي أوتار الكمان ثم غناء يحرضنا جميعا لكي نسمو علي الأحزان والانكسارات ونستعيد الهمم ونبدأ مشوار إزالة آثار العدوان . في فيلم يرصد مسيرة " حليم " الأسطورة لابد للناقد أن يقع في إغواء السياسة ، وربما يجنح قليلا بعيدا عن الانسان عبد الحليم حافظ ، لكن هذا لا ينفي براعة شريف عرفة في خلق احساس عام بمناخ لاهث وأحداث متلاحقة لا يمكن أن يحتويها فيلم واحد حتي لو بلغت مدته الثلاث ساعات ، وربما لهذا السبب ارتبك الايقاع في لحظات بسبب الإفراط غير المبرر في الحديث عن أزمته العاطفية ، ورفض والد حبيبته له لفارق المستوي الاجتماعي والاقتصادي ، وانتهاء بوفاة حبه الوحيد اثر اصابتها بمرض نادر ، وهي أزمة وان كانت حقيقية بالفعل وشكلت منعطفا خطيرا في تدهور حالته الصحية إلا أنها أدت الي ترهل الايقاع ، مع الاعتراف بأنها شهدت ذروة تألق الواعد هيثم زكي ، ومنحته الفرصة ليبدع في دور العاشق الرومانسي المصدوم ، بعيدا عن تقمصه الزائد أحيانا لشخصية " حليم " في صوته والحركات المستمرة ليديه ، والتي بدا منها أنه درس التفاصيل ولم يترك شاردة دون أن يتوقف عندها حتي تفوق ، في لحظات كثيرة ، علي " الأب " أحمد زكي ، الذي أعياه التعب ، وأنهكه المرض ، وهو ماانعكس علي صوته ، وان بدا عازما في كل مشاهده علي أن يبدو قويا غير مستسلم ولا مستكين ، بل نجح في لحظات كثيرة في توظيف اعيائه هذا بحيث يصب في صالح الشخصية ، ونجح في هذا بوعي زائد من المخرج شريف عرفة ، الذي لا يجرؤ ، سوي القتلة ، علي اتهامه ، والشركة المنتجة للفيلم ، باستغلال مرض أحمد زكي أو المتاجرة به ، وإذا لم تصدق فما عليك سوي أن تشاهد أداء أحمد زكي لتتأكد أنه فضل أن يواجه المرض بالتمثيل بدلا من أن يموت علي فراشه كما يموت البعير .