"بعد اقل من 18 شهرا من إعلان الرئيس الأمريكي جورج بوش في خطاب تنصيبه التزامه المطلق بالهدف الجوهري الخاص بإنهاء الاستبداد في عالمنا أصبح المستبدون في الشرق الأوسط وشرق آسيا أكثر شجاعة وثقة وعليه يمكن القول أن عقيدة بوش الديمقراطية انتقلت إلي ذمة الله". هكذا يستهل الكاتب الأمريكي جيم لوب من الواشنطن بوست إحدي افتتاحيات الصحيفة الأكثر يمينية في العاصمة الأمريكية مقررا أن الحلم والعقيدة في نشر النسق الديمقراطي الأمريكي قد تبخرا بفعل عوامل كثيرة والتساؤل هل ما ذهب إليه جيم لوب ينحو جهة الحقيقة أم المغالاة؟ واقع الأمر أن المتابع لخطاب لبوش في نوفمبر 2003 أمام الموقف الأمريكي للديمقراطية وبين المشاهد الأخيرة لإدارته في منتصف الفترة الثانية لحكمه يدرك أن هناك تفاوتا شاسعا بين القول والفعل. وإذا كان بوش ومن خلفه رايس وزيرة خارجيته قد صبا جامات غضبهما علي من أسموهم بالنظم الاستبدادية فان مشهد البيت الأبيض الأيام القليلة المنصرمة يؤكد علي أن هناك مكانا لهؤلاء والتعبير هنا "لتوماس كاروثرز" مدير مشروع الديمقراطية وحكم القانون بمؤسسة كارنيجي للسلام الدولي في واشنطن وان ما جري يحمل رسالة موجهة للعالم مفادها أن لدي واشنطن الكثير من المشروعات الأخري إلي جانب الديمقراطية في المنطقة وهذه المشروعات تعني وجود علاقات ودية مع جميع أنواع الحكام المستبدين. والمؤكد من جانبنا أننا لسنا في مقام تقييم نظم حكم معينة دون غيرها وقد لا نتفق مع المعايير التي أوردتها الواشنطن بوست جهة تلك الأنظمة لكننا نشير إلي حالة الشقاق القائمة والقادمة في المجتمع الحكومي والإعلامي الأمريكي جهة أطروحة دمقرطة الشعوب العربية والإسلامية. تقول الصحيفة الأمريكية إن الدافع الحقيقي لأطروحة بوش عن الديمقراطية المخملية ذات الأبعاد الوهمية لم يكن دافعها الحب والكرامة للعرب والمسلمين إنما جاءت بمثابة غطاء للفشل الذريع الذي منيت به بعد فشل مبرراتها الكاذبة لغزو العراق بحجة البحث عن أسلحة الدمار الشامل وعليه فقد أطلقت ما لا تؤمن به ولا تهتم في حقيقة الأمر بتجذيره عند شعوب المنطقة والمناطق المشابهة مثل شرق آسيا وبعض دول الاتحاد السوفيتي السابق وان نصب عينيها فقط آبار النفط ومنابع الذهب الأسود وإلا فما معني انه في الوقت الذي لا يزال فيه مسئولو بوش يتشدقون بالديمقراطية كعلامة أصلية ومميزة لفترة حكمهم الثانية يفتح البيت الأبيض أبوابه للرئيس الأذربيجاني الهام ألييف ويمتدح ديك تشيني رئيس كازاخستان نور سلطان نازارباييف ولا يهمل الجمع في واشنطن حتي الساعة التشكيك في النوايا الحقيقة وراء إعادة تطبيع العلاقات مع الجماهيرية الليبية؟. وعند جمهور المحللين الأمريكيين والعارفين ببواطن الأمور وظاهرها أن أحداثا بعينها قد فضحت الزيف الأمريكي الديمقراطي وفي مقدمتها ما يعتري أسواق النفط الأكثر توترا من ذي قبل وبخاصة في ضوء أي احتمالات مواجهة مع إيران ومنها كذلك الانتصارات التي حققتها التيارات الإسلامية السياسية في الانتخابات التشريعية لبعض دول المنطقة وصولا إلي ما أسمته "المناورة الجيوستراتيجية" ضد إيران وروسيا والصين. والتساؤل هل تخلت واشنطن تحت هذه الضغوطات عن أجندتها المزعومة للديمقراطية لصالح تيارات الواقعية السياسية التي يري سلبيات فيها ترغب عنها أكثر من ايجابياتها التي ترغب إليها؟ المقطوع به وفقا لمفهوم الفلسفة البراجماتية التي تحكم العقلية الأمريكية أن المصلحة هي دين أمريكا الرسمي وان كان هذا الدين يترجم اليوم بعبارات أكثر التواء وتحايلا في أدبيات السياسة منها "الواقعية السياسية". والمشاهد يري انحسارا في مد التيارات المحافظة التي أغرقت أمريكا السنوات الست الماضية لصالح قراءات جماعات الواقع الذي يتفق وإعادة بلورة الآليات اللازمة لتحقيق الإستراتيجية الأمريكية للمائة عام القادمة "القرن الأمريكي" عبر مشروعات أخري مثل يتحدث عنها توماس كاروثرز حتي وان كلف هذا إدارة بوش أن تضرب صفحا عن منظومة الديمقراطية الهلامية وان تستعين بمن وصفتهم في الماضي بعناصر الاستبداد والفساد وكالت لهم التهم كيلا وافرا ومهزوزا. وفي هذا السياق التراجعي المتقهقر وكالحال في غالب الكوارث التي أصابت المنطقة منذ زرع فيها الكيان الصهيوني نقول فتش عن الأيادي الصهيونية في الدفع نحو الديمقراطية ولاحقا في التراجع عنها ........كيف ذلك؟ منذ نحو عامين أو يزيد قليلا ملأ بوش الثاني الدنيا صياحا وجلبة وبشر بإنجيل جديد للديمقراطية كاتبه وملهمه هو ناثان شارانسكي الوزير اليهودي الذي فر من الاتحاد السوفيتي وأضحي واحدا من كبار المنظرين للديمقراطية في العالم والكتاب هو "قضية الديمقراطية: قوة الحرية تتغلب علي الاستبداد والإرهاب". وقد جعل بوش مما جاء في الكتاب دستورا وناموسا شبه إلهي يقرأه ويقره بل ويحاول أن يقرره علي دول العالم العربي والإسلامي إن استطاع إلي ذلك سبيلا. غير أن مقاس ديمقراطية شارانسكي وبوش لم تلائم شعوب دول عدة في المنطقة فجاءت النتائج مخيبة للآمال أو يمكن القول أنها لم تأت علي المقاس الديمقراطي الأمريكي ومن هذا المنطلق عاد شارانسكي يقول الأيام الماضية "إن التركيز الشديد علي إجراء انتخابات في كل مكان وبأسرع وقت ممكن كان خطأ لأنه رغم أن الانتخابات هي جزء من العملية الديمقراطية إلا أنها لا تمثل أبدا بديلا لها علي الإطلاق". والواقع أن شارانسكي صمت عن تقديم البديل ولم يرد علي القول ماذا لو كانت صناديق الانتخابات قد جاءت بما يتفق وهوي وهوية الجالس في المكتب البيضاوي يحمل وجهين كالإله جانوس عند الإغريق وهو أمر معروف وغير خفي أو جديد أن نشير إلي ازدواجية المنظومة السياسة الأمريكية منذ زمان وزمانين. أما الجديد والمثير فهو افتضاح كافة ما يجري داخل أروقة واشنطن ودهاليزها المليئة بمراكز الدراسات والتفكير المشكوك في توجهاتها ومحطاتها الأرضية والفضائية التي لا تنفك تبشر "بسنة الديمقراطية الجديدة". أما الفاضح هنا لما يجري هناك فهم كثر وعلي رأسهم "مارينا اوتاواي" وهي أيضا متخصصة في قضايا الديمقراطية بمؤسسة كارنيجي وتقول "إن الأمر سيكون تجارة كما هو معتاد وأنا اعتقد أننا نستطيع أن نتوقع استمرار الخطابات الزاعقة ورفع رايات التمويل الفاقعة من اجل أنشطة تعزيز الديمقراطية من خلال مبادرة الشراكة في الشرق الأوسط غير أن الشيء الذي لن نري الكثير منه فهو الضغط علي مستويات أعلي علي تلك الحكومات كي تقوم بتنفيذ الإصلاحات وكذلك بالتأكيد عدم الضغط علي أية دولة كي تسرع في إجراء انتخابات". هل يمكننا القول أن هناك ردة عن طريق دمقرطة المنطقة؟ هذا صحيح في المظهر وان أخفي كذلك شيئا خطيرا في الجوهر يميط اللثام عنه "أناتول ليفين" المتخصص في السياسة الخارجية بمؤسسة أمريكا الجديدة إذ يشير إلي أن هناك بعدا يخفي عن الناظر في مسألة الإسراع بالتحول إلي الديمقراطية والتي يمكن أن تقود تيارات غير صديقة لإسرائيل إلي الحكم وفي هذا تهديد واضح للدولة العبرية وان ما جري علي حد قول ليفين توقعه الواقعيون من أن حملة الديمقراطية سوف تهدد إسرائيل وأنظمة الحكم الموالية لأمريكا في المنطقة. ولان قسماً وافراً من السياسات الدولية يجري من موسكولواشنطن ليصب في مصلحة تل أبيب شئنا أو أبينا فان التراجع عن الديمقراطية يضحي أمراً واجب الوجود من هذا المنطلق. ومما لا شك فيه أن التساؤل الذي أضحت النخبة الأمريكية تطرحه هو "هل ما تحقق فعليا حتي الآن في منطقة الشرق الأوسط يدعم ما تقوله إدارة بوش والكونجرس عن أن تحولا ديمقراطيا يجري فيها كما تنطع بذلك القول روبرت زوليك نائب وزير التجارة الأمريكي في منتدي دافوس في شرم الشيخ؟ أم أن المسالة لا تعدو كونها إرضاء لأصوات داخلية أمريكية ومحاولة لإظهار تحقيق أي مكاسب تعلي فرص الجمهوريين سواء في انتخابات الكونجرس أو الرئاسة؟". الإجابة نحيلها علي الجنرال ويسلي كلارك القائد السابق لقوات حلف الأطلسي في أوربا بين عامي 1997و2000 وعنده أن القول بان غزو العراق قاد إلي ديمقراطية سوف تنتشر في كافة البقاع والأصقاع العربية قول يقتضي أن ينظر إليه بالكثير من الحذر والريبة فالحرب لم ولن تنشر الديمقراطية بل إلي ابعد من ذلك يجزم بان الديمقراطية لا تفرض بالقوة وإنما تنمي بالرعاية. ويبقي القول أننا لا نرفض النموذج الديمقراطي رغم ما يشوبه من مثالب منها سيطرة النخبة الرأسمالية علي الطبقة الحاكمة مما يجعل من الأمر في واقعه "ديمقراطية للقلة" وليس ديمقراطية للشعوب علي كافة مللها ونحلها نقول تبقي الديمقراطية هدفا منشودا في إطار استراتيجيات وطنية تنشد ديمقراطية مستقلة عن النمط الأمريكي ديمقراطية مرتبطة بالمصالح الحيوية للطبقات الاجتماعية كما يمثلها مجتمع مدني حقيقي في إطار علماني غير ملحد يلغي استغلال الدين وأي إيديولوجية. ويبقي الخاسر الأكبر في مزايدة المشروع الأمريكي علي نشر الديمقراطية في العالم العربي هو التيار الليبرالي الوطني الذي حجب عن الأعين بسبب الغبار الذي أثارته جماعات الليبراليين العملاء وصنوف المرتزقة الفكرية الذين يسعون لنسق ديمقراطي أمريكي شكلي من دون النظر إلي أي خلفيات اجتماعية والتطلع فقط لديمقراطية تقوم علي حرية قبول قواعد الرأسمالية الغربية دون أية فرصة لإمكانية رفضها إذ هي طريق من اتجاه واحد لا أكثر وهي عملية متاجرة بتسويق ما يشتهي الأمريكيون تسويقه حتي لو كان غير قابل للبيع في أي منفذ فهل حان أوان افتضاح هؤلاء وأولئك؟ وهل حق القول بان مشروع الديمقراطية الأمريكية للمنطقة العربية قد ولد كالسقط الذي لم ولن يقدر له رؤية النور بسبب زيف جوهره وبطلان مظهره؟ احسب أن ذلك كذلك ومن هنا يمكن الجزم بان عقيدة بوش الديمقراطية قد ذهبت إلي حيث ألقت رحلها أم قشعم