يبدو أن النظام السياسي في مصر لم يتمكن حتي الآن من إدراك الحقيقة المتعلقة باستمرار الصعود السياسي للإخوان المسلمين، والأخطر من ذلك أن يعلن هذا النظام - علي لسان الدكتور نظيف رئيس مجلس الوزراء - عن البحث في استحداث آليات جديدة تتعلق بقواعد الترشيح في الانتخابات القادمة، بحيث تتمكن الحكومة من منع أفراد الجماعة من الترشيح أصلاً، أي ان يكون قرار لمنع من المنبع، في الحقيقة نحن لا نعرف علي وجه التحديد الكيفية التي يمكن للحكومة أن تستخدمها في هذا المجال، إلا أن ذلك لا يمنعنا في ذات الوقت من التحذير من مغبة اللجوء في ذلك إلي التفتيش في أدمغة وعقول الناس، إذا تم الأخذ بخيار الاستناد إلي تحريات الأمن كوسيلة للاستبعاد أو الاستئصال من البداية، وربما كان ذلك الالتباس هو الذي دفع بالبعض إلي التساؤل عن طبيعة الطرق المأمونة للحد من أنصار أو اعضاء جماعة الاخوان المسلمين في انتخاباتنا القادمة، والتساؤل كذلك عن طرق التأكد من الصفة الحقيقية للمستقلين الذين يترشحون بحيث يستحيل عليهم تغيير صفتهم عندما يفوزون بالعضوية ويجاهرون بأنهم من اعضاء الاخوان. في هذا السياق حذر الأستاذ حازم عبد الرحمن "الأهرام - 8/5/2006" من الاعتماد علي الأمن لاستبعاد المرشحين المعروف عنهم أنهم من الاخوان، إذ أن ذلك سوف يعني بالضرورة لجوء الحكومة أو الحزب الوطني الحاكم لوسائل غير سياسية لحل مشكلة سياسية في الأساس، كما أن الأخذ بذلك الأسلوب وان كان سوف يحقق للحزب الوطني انتصارًا زائفا، إلا أنه لن يحل المشكلة الحقيقية التي تؤكد علي أن الحزب الوطني لا وجود حقيقيا له في الشارع، وأنه إذا دخل الانتخابات الآن، فالأرجح أنه لن يفوز بال 141 مقعدًا نيابيًا والتي فاز بها منذ ما يقرب من ستة أشهر!! وإذا كنت قد كتبت علي نفس هذه الصفحة بتاريخ 27/11/2005 وبعد إعلان نتيجة انتخابات مجلس الشعب في مرحلتها الأولي مباشرة، وتحت عنوان: "تفوق الإخوان: حدود الظاهرة وضرورات التعامل معها" حول أهمية إدراك وتقدير حجم القوي السياسية الفاعلة في الشارع الآن، وأهمية إدراج جميع تلك القوي في الحوار والتفاعل الوطني المصري، وضرورة البحث عن مخرج للمأزق الذي سببناه لأنفسنا عندما تصورنا خطأ، أن جماعة الاخوان يمكن أن تظل وللأبد بعيدة عن مسرحنا السياسي الرسمي، علي الرغم من أن فعلها السياسي الحقيقي ضارب بجذوره في أفئدة وعقول قطاع كبير من المصريين تمكن - بعد تمام إعلان نتيجة الانتخابات - من الدفع ب 88 نائبًا يحتلون الآن مقاعدهم باستمرار دون غياب أو تزويغ تحت قبة المجلس التشريعي، وذلك في ظل المحاولات الخرافية التي أقدمت الحكومة أو الحزب الوطني علي الأخذ بها للحيلولة دون نجاحهم، بطرق أغلبها غير مشروعة. من ذلك يتضح أن محاولات إنكار قوة وتنامي الوجود السياسي للإخوان كفصيل سياسي فعال علي الساحة الآن أو محاولة تهميشهم تحت أي دعوي، إنما يصب في خانة الوهم أو ربما أحلام اليقظة، ويكفي للتدليل علي صحة ذلك ملاحظة تفاعلهم مع القضايا الهامة التي تشغل الرأي العام في مصر، وتأثيرهم علي الشارع بهذا الخصوص ففي أزمة القضاة الأخيرة كان الاخوان المسلمون هم الحضور الأكبر المؤيد لنادي القضاة في أزمتهم مع الحكومة، الأمر الذي زاد دون أي شك من زخم وتعاطف الشارع مع القضاة في مواجهة السلطة التنفيذية، وهكذا يبدو الأمر وكأن الاخوان قد ادمنوا مهارة تسجيل الأهداف في مرمي السلطة والحزب الوطني الحاكم، وعليه فإن أي محاولات لتغييبهم من المعادلة السياسية، هو ضرب من الحماقة التي قد تطعن أصلا في دعاوي الاصلاح السياسي وأهدافه. وقد يكون ذلك الذي نفكر فيه، هو الذي تسبب في حالة توارد الخواطر التي بدت فيما كتبه الأستاذ سلامة أحمد سلامة "الأهرام - 4/6" وكذلك ما كتبه الأستاذ محمد الشبه "نهضة مصر" وفي نفس اليوم "4/6/2006" حيث قال الأول: بأنه إذا ظل الهاجس الوحيد المسيطر علي عقل النظام من فوز التيار الاسلامي بمقاعد فسوف يظل النظام مريضًا بداء التزوير واستخدام الأمن لإفساد أي عملية انتخابية ولو كانت في جمعية لدفن الموتي، وهو ما سوف يقضي علي أي تقدم نحو الديمقراطية، وقد رأينا كيف كان ذلك سببًا في تأجيل الانتخابات المحلية، وانتخابات معظم النقابات المهنية، وهو في الأغلب وراء تعقيدات النزاع حول قانون السلطة القضائية ولهذا السبب فلابد من حل هذه المعضلة التي أخذت تستفحيل يومًا بعد يوم، وهي معضلة الاخوان المسلمين الذين يظهرون في كل انتخابات فيحصدون المقاعد ويعكرون دم الحزب الذي يريد أن يستأثر بكل شيء.. إن عقد الاخوان التي باتت تؤثر علي كل قرار وتحد من أي رغبة في إصلاح حقيقي وتستخدم لضرب الديمقراطية، تحتاج إلي حل سياسي وإلي رؤية سياسية". أما الأستاذ محمد الشبه فقد كتب حول نفس الموضوع وفي ذات اليوم في عموده "شوية حرية" قائلا: قلنا دائما أن الحوار هو الحل، واننا إذا كان لدينا ما نقوله للناس وما يقتنعون به، فإن تيار الاسلام السياسي سيبقي موجودا في حجمه ومكانه الطبيعي، أما أن نكتفي بالقول بأن جماعة الاخوان ليس لها ممثلون في البرلمان، لأنها في عرف القانون "جماعة محظورة" فهذا بالقطع لغو باطل، لأن أي مواطن أمي في الشارع يعرف أن هناك داخل مبني مجلس الشعب 88 عضوًا دخلوا البرلمان علي قائمة جماعة الاخوان، وأنهم جميعًا نجحوا عندما رفعوا شعار الاسلام هو الحل، وفي المقابل لم نسمع أن احدًا في الحزب الوطني أو الاحزاب الشرعية الأخري غير المحظورة، قدم حلاً اخرًا مقنعًا للناس. ونظرًا لأننا من اولئك الذين يعتقدون في صحة الحكمة القديمة التي تقول: "إذا عرفت استطعت" بما يعني أننا إذا عرفنا حقيقة الشيء أمكننا ان نشكله وفق ما نريد، علاوة علي أن هذه المعرفة ستعطينا الفرصة لجلب أكبر قدر ممكن من خيراته، ودرء أكبر قدر ممكن من شروره وأضراره لهذا سيكون هدفنا في هذا الحديث هو مجرد المعرفة بحقيقة الصعود السياسي المستمر لجماعة الاخوان المسلمين في حياتنا السياسية المصرية، شاء من شاء الاعتراف بذلك أو أبي من آبي، بينما سيتناول حديثنا القادم الجانب الآخر "بعد المعرفة" في الحكمة التي ذكرناها منذ قليل، أي ما يتعلق منها بجانب الاستطاعة، والذي سنجتهد فيه لاستشراف مستقبل الجماعة في إطار منظومة الاصلاح السياسي والتطور الديمقراطي، الذي طال غيابه بفعل نجاحنا المذهل في ابتكار العديد من الوسائل التي اعتمدها نظامنا السياسي لاستبعاد مشاركة أو ربما استئصال دور الاخوان من المشهد السياسي بشكل عام. مما لا شك فيه ان الصعود السياسي الذي حققته جماعة الاخوان المسلمين في الانتخابات التشريعية الاخيرة وزيادة زخم تواجدها الفعلي في الشارع السياسي المصري انما يثيران العديد من التساؤلات حول اسباب ذلك الصعود المفاجيء والتواجد والتعبئة الفعليين في شارعنا السياسي ودلالات ذلك علي مجمل اوضاعنا واحوالنا السياسية ومن الغريب ملاحظة ان اخر الدراسات الميدانية التي اجريت علي جماعة الاخوان المسلمين قد تم اجراؤها منذ حوالي 35 سنة حيث قام بها الباحث ريتشاد ميتشيل في اواخر ستينيات القرن الماضي ومن يومها لم تجر اي دراسات ميدانية جادة حول التطور التنظيمي والسياسي والفكري للجماعة ولذلك لا يمكن لاحد الزعم بمعرفة الكثير عن الاسباب الحقيقية لتبرير الفوز الكبير لمرشحي الجماعة في ظل الغياب الملحوظ للدراسات الميدانية اللازمة لادراك الحقائق الموضوعية في ذلك الشأن الا ان تحت ايدينا الان تحليل مهم قدمه الاستاذ خليل العناني تحت عنوان "العامل التنظيمي واثره في الصعود السياسي للاخوان المسلمين وقد نشر هذا التحليل في ملف الاهرام الاستراتيجي والذي صدر في شهر مايو 2006، وفيه يقول صاحبه ان العامل التنظيمي قد شكل العصب الحقيقي للنتائج القوية التي حققها مرشحو الجماعة في انتخاباتنا التشريعية الاخيرة... فالاصل لدي جماعة الاخوان في اي انتخابات هو المشاركة والمقاطعة هي الاستثناء ولاتكون المقاطعة الا اذا كانت ثمة شواهد تشي بانعدام النزاهة او التحيز ضد الجماعة او التضييق علي كوادرها ومرشحيها... ذلك ان دخول الانتخابات بحد ذاته يعد ضرورة حيوية بالنسبة للجماعة ليس لكونها اداة للوصول الي الحكم فهذه رغبة لا تزال تتخلق في وجدان الجماعة ولكن لكونها افضل اداة للتقرب من الشارع المصري والتعاطي معه بحرية ومباشرة ناهيك عن الاغراض الدعوية الاخري للجماعة، فقرار دخول تلك الانتخابات تم اتخاذه بعد دخول مصر في اتون مرحلة مختلفة فيما يخص العلاقة بين السلطتين التنفيذية والقضائية ومن ثم زيادة دور هذه الاخيرة في ضبط العملية الانتخابية وارتفاع سخونة المناخ السياسي في مصر بشكل غير مسبوق. لقد كان للعامل التنظيمي "والذي تفتقده حسب ما نعتقد جميع الاحزاب السياسية الاخري بما فيها الحزب الوطني نفسه" دورا حيويا في النتائج القوية التي حققتها الجماعة في الانتخابات بدأ باختيار المرشحين والقيام بالدعاية اللازمة لهم وتمويل حملاتهم الانتخابية ويكفي عند رصد دلالات ذلك العامل وتأثيره ملاحظة ما يلي، ومقارنته بما جري في الاحزاب الاخري وما آلت اليه نتائجها: اولا: ان اهم دلالات العامل التنظيمي كمحدد للصعود السياسي للاخوان تمثل في عدم حدوث اية انشقاقات اخوانية خلال الانتخابات تقريبا في مراحلها الثلاث. ثانيا: قامت الدعاية الانتخابية للجماعة بالتأكيد علي ابراز التماسك والترابط. ثالثا: الاتساق بين المرشحين وناخبيهم. رابعا: فرض العامل التنظيمي نفسه في الالتزام "العقائدي" الذي رسم رد فعل الجماعة ازاء احداث العنف والتزوير التي شهدتها بعض الدوائر