قبل اندلاع الحرب علي العراق، كانت الإدارة الأمريكية توجه لصدام حسين نقدا لقيامه بذبح العراقيين الأبرياء، أما الآن فصدام حسين هو الذي يوجه نقدا لأمريكا لقيامها بذبح العراقيين الأبرياء. فالعراقيون في الوقت الحالي يرفعون أصواتهم مطالبين بإخراج القوات الأمريكية لجعل الحياة أفضل بالنسبة لهم، بعد أن كانت هذه القوات قد أرسلت إلي بلدهم لجعل حياتهم أفضل. وعلي إثر ثورة الغضب المتصاعدة بسبب مذبحة "الحديثة"، وبسبب حادث إطلاق النار يوم الأربعاء الماضي علي امرأتين كانت إحداهما حاملاً وفي طريقها إلي المستشفي، انتقد رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي العسكريين الأمريكيين بعبارات حادة واتهمهم بشن هجمات منتظمة علي المدنيين واصفاً تلك الهجمات بأنها "غير مقبولة علي الإطلاق"، ومتعهداً في الوقت ذاته بفتح تحقيق حول الموضوع. كلام جسور بلا شك من حكومة هشة، تعتمد في استمرارها، وسط وليمة الدم الطائفية المقامة حاليا في العراق، علي القوات الأمريكية نفسها التي توجه نقدها إليها. مفارقة مريرة حقا! ولكن ينبغي القول هنا أيضا بأن نظام صدام حسين كان نظاما وحشيا، وأن القوات الأمريكية ليست في وارد الإعتراف بأن هناك فظائع لا يمكن إنكارها قد حدثت، وأن الحرب أصبحت تتسم بقدر من الفظاعة والوحشية. لقد تحولت القوات الأمريكية في العراق إلي عدو لنفسها، كما قال أحد المحللين آسفا علي شاشة تليفزيون "سي إن إن". ليس هذا فحسب، بل إن هذه القوات تواجه الآن ضغطا عصبيا هائلا حيث يخرج جنودها في مهام يومية دون أن يعرفوا اللغة العربية، ودون أن يفهموا الثقافة، ودون أن يعرفوا هوية المتمردين، ولا متي سيعودون إلي الوطن، ومن من زملائهم سيتم تمزيقه إلي أشلاء أمام أعينهم بواسطة عدو خفي غير مرئي. هذه القوات كانت مدربة علي خوض حرب نظامية، أي حرب جيش مقابل جيش ولم تكن مهيأة لخوض حرب ضد متمردين، علي الرغم من أن التقارير الاستخبارية كانت تحذر من التمرد ومن احتمال الحرب الأهلية. لقد تم تحويل هؤلاء الفتية إلي أهداف سهلة، لأن المحافظين الجدد اعتمدوا علي تنبؤات واهية تقول إن العراقيين سيخرجون للترحيب بالأمريكيين، وأن الجيش الأمريكي سرعان ما سيخرج من العراق من أجل تسويق الحرب أمام الرأي العام في بلدهم. إنه لشيء جدير بالإعجاب حقاً أن نسمع أن قادة "المارينز" يسعون في وسط هذه البيئة المعادية إلي تدريب قواتهم علي أن تكون أكثر حساسية تجاه مشاعر ومعنويات العراقيين، ولكن ما اعتقده أنا شخصيا في هذا الخصوص أنه طالما أن أحداً لم يعلِّم هؤلاء الجنود أنهم يجب ألا يطلقوا النار علي النساء الحوامل وعلي الأطفال الأبرياء، فليس هناك ضمان لأن تؤدي دورة إنعاش سريعة لتعليمهم ذلك. إن المشكلة بشأن استجلاء القيم الأخلاقية الجوهرية، ونفض الغبار عنها، هو أنك إذا لم تتعلم هذه القيم في نقطة معينة من حياتك فلن تتعلمها أبدا. فنحن الآن لا نستطيع أن نعلم قواعد اللياقة والأخلاق لهؤلاء الجنود، وبالقدر نفسه لا نستطيع أن نعلم قواعد الذوق لمسئولي البيت الأبيض، الذين قاموا عمدا بتسريب أخبار عن منتقدي الحرب، رغم أنهم قد تعهدوا بعدم تسريبها. من أقوال الجنرال نورمان شوارسكوف التي يتم الاستشهاد بها لتعليم القيم الأخلاقية الجوهرية: "إن الحقيقة هي أننا نعرف دائما أين هو الشيء الصحيح، ولكن الشيء الصعب هو القيام بذلك الشيء". إن العالم اليوم ينظر شذرا إلي القيم الأمريكية التي نتشدق بها، رغم أن "دبليو" قد انتخب علي أساس أجندة تعهد فيها باستعادة الأخلاق إلي المكتب البيضاوي، ورغم أنه حقق النصر بأصوات "ناخبي القيم". لقد قاد كل من ديك تشيني ودونالد رامسفيلد، عملية غزو العراق لإحياء ما كانا يعتبرانه "قيماً أمريكيةً مفقودة". لقد أرادا تقوية العزيمة الأمريكية الخائرة تجاه استخدام القوة، بعد تجربة الحرب الفيتنامية، ووضع حد للتذبذب الأخلاقي المتخلف عن سياسات "افعل ما تراه صالحا" التي سادت في ستينيات القرن الماضي. وفي قلقهما علي أمريكا الخائرة العزم، فإنهما بدآ يفكران في كيفية جعل أمريكا دولة ذات إرادة صلبة يخافها الجميع، ولكن الذي حدث هو أنه لم يعد هناك أحد يخاف منَّا.علي الأقل ليس رئيس إيران المتعصب محمود أحمدي نجاد الذي تضطر الإدارة الأمريكية إلي التزلف له الآن بعد أن تغيرت ظروف القوة العسكرية الأمريكية علي الأرض، ولم تعد مخيفة كما كانت، بل تآكلت وأصبحت معنويات جنودها منخفضة، بعد أن تورطت في مستنقع العراق وهي تحاول أن تلعب دور رجل الشرطة الذي يحاول منع اندلاع الحرب الأهلية. إن الغزو الذي كان يهدف إلي التخلص من الإرهاب قد جعله أقوي... والغزو الذي كان يفترض أن يجعل أمريكا أكثر مهابة قد جعلها مكروهة أكثر، والغزو الذي كان يحاول معالجة أعراض ما بعد فيتنام أدي إلي مفاقمة تلك الأعراض. إن مدعي الفضيلة من مفكري اليمين الأمريكي قد اعتقدوا أنهم سيعرضون الفضائل الأمريكية أمام العالم عند قيامهم بفرض الديمقراطية، ولكنهم الآن، وبعد تهم القتل التي ستوجه إلي بعض أفراد "المارينز"، والتحقيق الذي يجري بشأن التغطية علي حقائق، فإن ما نراه هو أن رئيس "القيم" يحتاج إلي دورة إنعاش لتعلم القيم... أليست هذه مفارقة أشد مرارة؟