من المؤكد أن المواجهات التي تفجرت منذ بداية الاسبوع الحالي بين الشيعة العراقيين من انصار الزعيم الشاب مقتدي الصدر، وقوات الاحتلال متعددة الجنسيات التي تقودها الولاياتالمتحدة، واسفرت عن مقتل واصابة المئات خاصة من الجانب العراقي لم تقع الا نتيجة احتقان مزمن ربما يعود إلي لحظة الاحتلال ذاتها، وما تلاها من احداث حولت الكثير من الشيعة الذين كانوا يساندون المساعي الأمريكية لاسقاط نظام صدام حسين إلي اعداء للاحتلال. فالشيعة الذين كانوا مهمشين في زمن صدام حسين وجدوا انفسهم مهمشين أيضاً علي ايدي الفاتحين الذين وعدوهم بالحرية والديمقراطية ومنحهم حقوقهم، واكتشف الشيعة أن تهميش صدام لهم افضل من تهميش الامريكيين فصدام كان يهمش الجميع بلا استثناء سواء كانوا شيعة أو سنة أو اكرادا أوتركمانا لصالح فكرة الدولة القومية التي ينصهر الجميع فيها، والتي يتساوي فيها الجميع ماداموا ملتزمين بتوجهها القومي أما الأمريكيون فقد واصلوا تهميش الشيعة ولكن لمصلحة الاكراد فقط. وكان الشيعة من اكثر الناس تضرراً من التخريب المتعمد الذي قام به الأمريكيون في العراق فرغم أنهم لم يقاوموا الغزو الا أن مئات الالاف منهم وجدوا انفسهم بلا عمل بعد القرارات الأمريكية الجائرة باغلاق الكثير من الوزارات والمرافق الحيوية. وتضرر الشيعة مثل غيرهم من عمليات السلب والنهب التي تعرضت لها العراق عقب الغزو. وإذا كانت الاحداث الحالية قد تفجرت نتيجة اعتقال القوات الأمريكية للشيخ مصطفي اليعقوبي أحد كبار مساعدي رجل الدين الشيعي الشاب مقتدي الصدر من منزله في مدينة النجف مساء يوم السبت الماضي بحجة أنه سبق أن شارك في اغتيال رجل الدين الشيعي المعتدل عبد المجيد الخوئي في أبريل الماضي فإن هذا الحدث لن يكون سوي القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقولون. والمواجهات التي تفجرت بقوة يوم الأحد الماضي أحدث حلقة في سلسلة الاخطاء الكبيرة التي ارتكبها السفير بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي في العراق منذ وصوله إلي بغداد في منتصف العام الماضي تقريباً، وادت إلي انقلاب معظم انصار أمريكا عليها سواء في داخل العراق أو خارجه، كما أدت إلي انفلات أمني واضح ازداد حدة عما كان عليه قبل أن يتولي بريمر منصبه خلفاً للجنرال المتقاعد جاي جارنر. وكان الخطأ الأول للسفير بريمر ذلك القرار الذي اتخذه علي مسئوليته الشخصية بعد اسابيع من وصوله بحل وزارات الدفاع والداخلية والإعلام وتسريح العاملين بها، وحرمانهم من رواتبهم، وهو ما أدي إلي ظهور 400 الف عاطل عن العمل يجيد معظمهم استخدام السلاح، وبالتالي انقلب الكثيرون منهم علي قوات الاحتلال، وانضموا لصفوف المقاومة. وارتكب السفير بريمر الخطأ الكبير الثاني عندما رفض مطالب الاغلبية الشيعية بعدم إقرار الدستور العراقي المؤقت والمعروف باسم قانون إدارة الدولة بشكله الحالي وأجبر اعضاء مجلس الحكم الانتقالي بالتوقيع عليه رغم أن خمسة منه كانوا قد رفضوا علناً هذا الدستور لما فيه من بنود اعتبرها معظم العراقيين كفيلة بتفتيت وحدة البلاد، وتمهد لقيام دولة انفصالية كردية في شمال البلاد. والخطأ الكبير الثالث الذي ارتكبه السفير بريمر هو إصراره علي تجاهل مطالب آية الله علي السيستاني المرجع الشيعي الأعلي في العراق بعدم تسليم السلطة في البلاد إلا إلي حكومة عراقية منتخبة، حيث أخذ الحاكم المدني الأمريكي يتفنن في إضاعة الوقت، وعندما اقترب الموعد الذي حددته الإدارة الأمريكية لتسليم السلطة للعراقيين، وهو 30 يونيو المقبل قام بمسرحية شكلية لاشراك الأممالمتحدة في المفاوضات مع السيستاني بهدف إقناعه باستحالة إجراء الانتخابات العامة العراقية خلال الوقت المتبقي، ورغم تسليم المرجع الشيعي بالأمر في نهاية المطاف بشرط إجراء الانتخابات قبل نهاية العام الحالي إلا أن بريمر رفض هذا المطلب الجديد أيضاً. وبدهاء رجل المخابرات حاول السفير بريمر اللعب علي التناقضات التي يزخر بها المجتمع العراقي، ولكنه لم يكن ماهراً أيضاً في هذا الخصوص فبدلاً من أن يحاول استمالة الاغلبية الشيعية التي يشكل افرادها ما يقرب من 65% من تعداد الشعب العراقي اغدق في العطاء علي الاكراد فمنحهم امتيازات في تشكيل مجلس الحكم والحكومة المؤقتة والدستور أثارت حفيظة بقية الطوائف الأخري من شيعة وسنة وتركمان. ولعب بريمر علي التناقضات داخل الطائفة الشيعية أيضاً فتجاهل التيار الصدري واسع الانتشار، والذي يقوده الزعيم الشاب مقتدي الصدر، وفي المقابل حاول علناً استمالة آية الله علي السيستاني، وهذا برغم أنه لم يعطه شيئاً تقريباً، وإنما اقتصرت استمالته له علي محاولة التحاور معه فقط. والمواجهات الأخيرة فجرها خطأ آخر لمسئول مكافحة الإرهاب السابق في الخارجية الأمريكية السفير بريمر الذي أمر القوات الأمريكية باعتقال رجل الدين الشيعي الشيخ مصطفي اليعقوبي مساعد مقتدي الصدر من مكتبه في مدينة النجف الاشرف رغم أن انصار الصدر كانوا انذاك مشحونين يتظاهرون في بغداد والنجف وغيرهما احتجاجاً علي قرار سابق لبريمر باغلاق صحيفة "الحوزة" التي يصدرها الصدر بحجة أنها تحرض علي قوات الاحتلال والخطأ الأكبر الذي ارتكبته قوات الاحتلال متعددة الجنسيات المعروفة بأسم قوات التحالف هذه المرة يتمثل في اساءة اختيار توقيت اعتقال مصطفي اليعقوبي، والافراط في استخدام القوة ضد المدنيين حيث استخدمت طائرات الهليكوبتر والعربات المدرعة في التصدي لمظاهرات الاحتجاج علي اعتقال اليعقوبي، والتي كانت سلمية في بدايتها. كما أن الأمريكيين وضعوا حلفاءهم الاسبان والسلفا دوريين، وغيرهم في مأزق كبير عندما قاموا باعتقال اليعقوبي بقوة ارسلوها خصيصاً لهذا الغرض من بغداد دون أن يعلنوا ذلك مما حدا بالشيعة في جنوب العراق للظن بأن الذين نفذوا العملية هم الاسبان فينقلبون عليهم. وفي خطوة تكشف مدي اندفاع السفير بريمر أعلن أن مقتدي الصدر ورفاقه رجال خارجون عن القانون، وهو ما يعني مباشرة أنه اصبح مستهدفاً من الأمريكيين، وبالتالي وضعه في مأزق لاخيار فيه سوي مواصلة القتال حتي النهاية، وجاءت خطوة بريمر بينما كان بعض المعتدلين من الشيعة، واعضاء مجلس الحكم الانتقالي يحاولون دفع مقتدي الصدر إلي التهدئة، والبحث عن حل وسط.، وفي تصرف آخر يدل علي الاندفاع أيضاً والحماقة السياسية اقدم السفير بريمر علي ارسال عشرات الالاف من الجنود لاقتحام مدينتي الفلوجة والرمادي اللتين تعدان من معاقل المقاومة السنية، وذلك بينما كان جنوده يشتبكون مع الشيعة في بغداد والنجف والعمارة البصرة، كأنه اراد تأليب الجميع علي الاحتلال، ودفع الشيعة والسنة للتحالف ضد الوجود الأمريكي في العراق. وإذا كانت الحجة التي ساقتها القوات الأمريكية لمحاصرة ومحاولة اقتحام الفلوجة هي البحث عن الاشخاص الذين قتلوا اربعة عناصر أمن أمريكيين الاسبوع الماضي، ومثلوا بجثث اثنين منهم فإن الافراط في استخدام القوة في هذه العملية ايضاً وتوقيتها من شأنه ان يؤدي إلي نتائج عكسية. وفيما يتعلق بالمواجهات مع انصار مقتدي الصدر فالواضح الآن أن كل شيعة العراق اصبحوا من انصار الصدر فإن الشاب الذي لايتجاوز عمره ثلاثين عاماً استطاع اجتذاب الشباب الشيعي الذي مل من زعمائه التقليديين الذين التزموا الصمت ربما عملاً بمبدأ التقية الشيعي، ولم يحرك أحدهم ساكناً في مواجهة الاحتلال متعدد الجنسيات لبلاده وتبرز الشعارات التي رفعها انصار الصدر في مظاهراتهم في بغداد والنجف والعمارة والبصرة خلال اليومين الماضيين حقيقة واضحة هي أن مقتدي الصدر، ودعواته للتصدي للاحتلال، وتشكيل مجلس حكم جديد يمثل العراقيين تمثيلاً حقيقياً ولايضم أمريكيين واوروبيين يحملون أسماء عراقية كما هو الحال في المجلس العراقي قد اجتذبت الشبان الشيعة المعدمين والبائسين واليائسين فالتفوا حوله لدرجة التقديس حتي ان بعضهم رفع شعارات تقول "عذراً ياعلي.. مقتدي هو الولي" وهو مايعني انهم اصبحوا يضعونه في مرتبة تفوق مرتبة الأمام علي بن ابي طالب رضي الله عنه. وتنذر تطورات الأمور خلال اليومين الماضيين وقوة المواجهة الشيعية لقوات الاحتلال بصيف ساخن قد يكون الأخير للأمريكيين وحلفائهم في العراق فبعد ان ثار الشيعة، وهي ثورة لانعتقد أنها ستخمد تماماً، وإن هدأت بعض الشيء فالمتوقع ان تبادر دول التحالف الأخري لمن لاناقة لها ولا جمل في العراق بالاعلان عن انسحابها مثلما حدث مع أسبانيا ونيوزيلاندا في الاسابيع الماضية. وخلاصة القول هي انه اذا كان رفض السنة وحدهم للاحتلال كلف الولاياتالمتحدة حياة 600 من جنودها علاوة علي 100 من جنود الدول المتحالفة معها فإن هذا الرقم مرشح للتضاعف الآن وبقوة بعد أن تسبب غباء وغرور سفير مكافحة الإرهاب في انقلاب الشيعة ايضاً علي هذا الاحتلال، وبالتالي اصبح عمره في العراق قصيراًَ.