لا يوجد تجمع يتحدث عن "الديمقراطية" في العالم العربي إلا ولا بد أن يثار معه دور الولاياتالمتحدةالأمريكية في عملية الإصلاح؛ وعندما يكون الحديث مهذبا وفي ندوة علمية أكاديمية فإن الموضوع يشار له تحت عنوان "دور العوامل الخارجية" حتي ولو لم يذكر أحد كلمة أوروبا مرة واحدة، أما إذا كان التناول سوقيا مباشرا فإن "الإصلاح بالريموت كونترول" يصبح هو الترجمة لدور واشنطن في العملية كلها. وقد كان ذلك هو التعبير الذي ذاع خلال انعقاد المؤتمر الاقتصادي العالمي في الشرق الأوسط الذي دام في شرم الشيخ بين العشرين والثاني والعشرين من مايو الجاري. فقد كان التواجد الامريكي في المؤتمر كثيفا، والحديث الصادر عن التواجد غزيرا في تعبيراته الإصلاحية والديمقراطية، والأمثلة القائلة بالديمقراطية التي جاءت إلي أفغانستان والعراق متكررة. وشخصيا فإنه لا يوجد لدي خلاف مع الرأي القائل أن الديمقراطية والإصلاح السياسي والإقتصادي في الشرق الأوسط عامة والعالم العربي خاصة أصبح حاجة ملحة بل هو ضرورة تاريخية للحاق بالعصر والعالم وحل مشكلات مستعصية زاد استعصاؤها نتيجة الديكتاتورية المستحكمة. وشخصيا فإنه لا يوجد لدي اعتراض أن يكون للعالم وليس للولايات المتحدة بالتحديد دور في عملية الإصلاح من خلال تقديم التجربة والنموذج التاريخي وفتح الأبواب للتجارة والاستثمار. ولكن كل ذلك أمر وما قامت به واشنطن في الشرق الأوسط أمر آخر، وما علينا إلا فحص التجربة بحياد وموضوعية لكي نتعرف علي نقائصها ومشاكلها وما يترتب عليها من نتائج عكسية. فقد قام المنطق الأمريكي في الضغط من أجل الديمقراطية علي مشابهة تاريخية مغلوطة وهي ما فعلته في اليابان وألمانيا وإيطاليا، وبدرجة من الدرجات في أوروبا الشرقية، حيث كانت الأدوات العسكرية والضغوط السياسية الأمريكية هي التي حولت مجتمعات من الشمولية علي الديمقراطية، وببساطة من الظلمات إلي النور. ولكن هذه البلدان عاشت حالات مختلفة تماما عن تلك التي عاشتها وتعيشها بلدان الشرق الأوسط العربية، فهي من ناحية كانت قد أنجزت عددا من مهام التحديث الأساسية حينما حققت التعليم الشامل للمجتمع، وخلقت طبقة صناعية، والاهم من ذلك كله جماعة سياسية كانت تتنازعها اتجاهات قومية وديمقراطية، ولم يكن من بين المتنازعين تيارات دينية. ولم تكن هناك صعوبة في عبور الجسور بين التيارات القومية التي كانت ترغب في البعد عن روسيا بكل طريقة والتيارات الديمقراطية التي رأت خلاصها الكامل في علاقة استراتيجية دائمة مع العالم الغربي. وكان هناك عامل مهم قليلا ما يشار له وهو أنه عبر السنوات، وخلال الحرب العالمية الثانية، وخلال الحرب الباردة، تكونت نخب ديمقراطية من هذه البلدان أقامت في الغرب ولعبت دورا في الإعداد لعملية التحول العظمي في بلادهم، فكانت لديهم المعرفة بالخصائص القومية، والمعرفة بالخصائص الديمقراطية الغربية ومن ثم ساهموا في عملية هندسة التغيير. ويحسب اليابانيون للنخبة اليابانية التي عاشت في الولاياتالمتحدة أثناء الحرب الفضل في الهندسة السياسية لعملية التغيير في اليابان، فكانت هي التي أوصت ببقاء الإمبراطور رمزا للدولة اليابانية التاريخية مهما كانت فظائعه، كما كانت هي التي أقامت نظاما سياسيا مستقرا وفاهما للدور الياباني في العالم. وفي الشرق الأوسط عامة، والعالم العربي، لم يكن أي من ذلك متوافرا، فلا عرف العالم العربي بعد مجتمعات متعلمة وعلي درجات راقية من التعليم، ولا عرف طبقة صناعية يعتد بها، ولا كانت الطبقة والنخبة الديمقراطية فائزة بالعدد والتواجد بل علي العكس تغلبت عليها التيارات القومية والأصولية الدينية والطائفية. أما النخب العربية المختلفة التي استقرت في الغرب فقد عكست بدورها هذه التيارات غير الديمقراطية، ومن يناقش الجماعات العربية في العواصمالغربية يجد لديها نفس النزعات السياسية السائدة في العالم العربي، وكثيرا منها لديه نزعات أصولية عميقة، ولا تخل جميعها من ميل ملحوظ لكراهية المجتمعات التي تعيش فيها. وهكذا فإن ما تصورته الولاياتالمتحدة جاهزا لتجربة مماثلة لذات التجارب التي خاضتها من قبل كان سرابا كبيرا، وكانت نتيجة عملها العسكري رغم الإطاحة بطالبان ونظام صدام حسين هو تحرير كابول فقط والمنطقة الخضراء في بغداد. وما عدا ذلك كان مجتمعات منفجرة علي نفسها بأشكال طائفية وعرقية متنوعة دخلت في حالة من الحرب الأهلية الفعلية حتي ولو اختلفت حدتها بين يوم وآخر. ورغم أن الولاياتالمتحدة قد عرفت تجربة الصومال من قبل، فإنها أعادت تكرارها في أفغانستان والعراق، وبتكلفة عالية تعدت تريليونين من الدولارات لو حسبنا تكلفة الفرصة البديلة. وكان ذلك راجعا للجهل بالمجتمعات العربية من جانب، والعمي الأيديولوجي من جانب آخر الذي فرض رؤي بسيطة علي أوضاع بالغة التعقيد. ومن المدهش أن الولاياتالمتحدة التي كانت مستعدة لإنفاق تريليونين من الدولارات علي عمليات عسكرية مكلفة وغير منتجة، فإنها أخفقت تماما في دفع الاستثمارات الملائمة لخلق طبقة متعلمة وصناعية وقادرة علي خلق الأساس الموضوعي للديمقراطية. وببساطة كان الريموت كونترول الأمريكي محروما من البطاريات اللازمة لتحريك عملية الإصلاح السياسي، وفي كل الأحوال افتقدت الرؤية الشاملة بعد أن سيطرت عليه رؤي جماعات قليلة من المعارضة كانت مهتمة بتسجيل المواقف والانتقام الشخصي أكثر من اهتمامها ببناء وضع يسمح بالإصلاح والديمقراطية. ولكن، وعلي أية حال، فإن الإصلاح والديمقراطية هما مهمتان وطنيتان، تقوم بهما القوي المحلية في كل الأحوال. ولولا التراكم التاريخي الصناعي، والتراكم التاريخي التحديثي الذي جعل المجتمعات اليابانية والألمانية والأوروبية الشرقية قادرة علي التخلص من خرافاتها التاريخية ما كان ممكنا لكل القوي الخارجية بما فيها الولاياتالمتحدة أن يكون لها دور يذكر في عملية التغيير والإصلاح. والكارثة الآن أن هذه القوي المحلية لم يعد أمامها مواجهة مواريث تاريخية خاصة بها بل بات عليها مواجهة المواريث الجديدة التي تتولد عن السلوك الأمريكي، فلم تعد هذه السلوكيات جزءا هاما من أساليب مواجهة الديمقراطية، بل باتت أيضا ذات قدرة هائلة علي توليد جماعات متطرفة وأصولية وعنيفة. وإذا كان ذلك هو العائد من سلوك أصدقاء الديمقراطية فمن يحتاج إلي أعداء لها ؟!