يقال كثيرا أن التاريخ لا يعيد نفسه أبدا، وان الإنسان لا ينزل أبدا في نفس النهر مرتين، وهناك دوما جديد تحت الشمس؛ ولكن من الجائز أن يكون هناك استثناء علي هذه القواعد التاريخية الشائعة والتي قد تكون صالحة لكل زمان ومكان. وهذا الاستثناء يوجد دائما لدينا في الشرق الأوسط عامة، وفي العالم العربي خاصة، وفي مصر المحروسة خاصة جدا. ولا يحتاج الموضوع لكي نذهب بعيدا، فما أن هل علينا المؤتمر الاقتصادي لدول الشرق الأوسط المنعقد تحت راية المنتدي الاقتصادي العالمي دافوس في شرم الشيخ حتي شرعت جماعات مناهضة العولمة، وجماعات مقاومة الشرق أوسطية، عن أسلحتها التي كانت قد أشهرتها طوال التسعينيات من القرن الماضي. فلا جرت مياه تحت الجسور، ولا صعدت شموس وأقمار علي المنطقة، وما لدينا لا يزيد عن كونه حلقات متتالية لإعادة إنتاج كل ما سبق بتفاصيله وحذافيره حتي ولو كانت الدنيا قد انقلبت رأسا علي عقب أو حتي وضعت كافة الأفكار تحت الاختبار الزمني لكي يتبين منها ما هو جاد وما هو لا يزال علي سبيل المزاح. وليس سرا علي أحد أنني من هؤلاء المتحمسين للعولمة والتي أراها علي عكس كثيرين خطوة متقدمة في التاريخ البشري من حيث قدرتها علي التعامل مع المشاكل الأساسية للبشرية. ولكن "الخطوة المتقدمة" في تاريخ البشرية ليست "الجنة"، وليست "المدينة الفاضلة" وليست "يوتوبيا" من أي نوع، وإنما هي مرحلة أخري إلي الأمام تولد مشاكل ومعضلات للإنسانية ينبغي حلها، ومن خلال هذا الحل تتقدم مرة أخري. وكان ذلك هو جوهر الفكر "التقدمي" الجدلي في كل العصور حتي جاء التقدميون من العرب في آخر العصر لكي يطرحوا فكرا جديدا يجعل ما هو تقدمي رجعي بالضرورة. وليس سرا علي أحد أنني كنت من المؤمنين أن التعاون في الشرق الأوسط من الأمور الحيوية ليس فقط لبناء نظم اقتصادية فعالة في المنطقة وإنما أيضا واحد من سبل زيادة وليس نقصان الأوراق العربية الضرورية للحصول علي الحقوق العربية المشروعة. ولم يكن هذا الإيمان أبدا علي حساب لا التعاون العربي، أو حتي التعاون الأفريقي، وإنما جزء من حلقات متكاملة ومترابطة لإعطاء دول المنطقة خيارات أكبر وأوسع. وفي هذا السبيل كانت إسرائيل تصغر كثيرا لكي لا تزيد عن كونها واحدة من دول المنطقة الصغيرة، وليست الدولة المسيطرة والمهيمنة التي يتصورها الكثيرون. وعلي أي الأحوال فقد كانت الفكرة "الشرق أوسطية" هي الجوهر الذي قامت عليها المبادرة العربية للسلام التي قامت علي مبادلة الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة باستيعاب إسرائيل _ بعد الاعتراف بها بالطبع داخل بنية إقليمية أمنية واقتصادية. ولكن ما حدث فعليا خلال السنوات القليلة الماضية كان مضادا لكل من العولمة والشرق أوسطية معا، فالعالم العربي رأي فكريا العولمة شرا مستطيرا وحالة من حالات الاختراق الثقافي والاقتصادي، ومن الناحية العملية فقد ظلت المنطقة العربية من اقل مناطق العالم "عولمة" وتنافسية. وكذلك وقبل نهاية القرن العشرين كانت "الشرق أوسطية" قد وصلت إلي نهايتها، وظلت المبادرة العربية تحركا دبلوماسيا يذكر في الكتب، وربما جاء بناء الحائط الإسرائيلي العازل للأراضي الفلسطينية ترجمة عملية لقول لم يكن ذائعا علي المستوي الإسرائيلي فقط وهو "نحن هنا وهم هناك"، وإنما علي مستوي المنطقة كلها. ولا يعرف أحد علي وجه التحديد ماهية الأسباب التي أدت إلي انعقاد مؤتمر شرم الشيخ، فلا عملية السلام العربية الإسرائيلية تبدو مزدهرة أو حتي موجودة بأي معني، ولا ظروف الصراعات في المنطقة العراق وإيران تشير إلي وجود أولوية للتنمية الاقتصادية والتعاون الاقتصادي، ولا حدث تحسن بأي معني في الظروف الاقتصادية في المنطقة بحيث تخلق دوافع للتجمع في مؤتمر شرم الشيخ بغية مأسسة التعاون وإقامة علاقات اقتصادية نشطة. وربما كان للمؤتمر بعض من الفوائد الآنية لمصر حيث أن عقد المؤتمر في هذا التوقيت بعد الأحداث الإرهابية في طابا وشرم الشيخ ودهب ربما يشكل ردا علي هذه العمليات وإشهارا علي الصمود المصري في مواجهة الإرهاب. ومن الجائز أيضا أن يكون عقد المؤتمر نوعا من إبداء حسن النية ومساندة للرئيس محمود عباس في مبادرته لعقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط. ولكن من الناحية المعلوماتية البحتة فإنه عند الاتفاق علي عقد هذا المؤتمر في العام الماضي، ونقله مؤقتا أو بصفة دائمة من البحر الميت حيث عقد خلال العامين الماضيين إلي شرم الشيخ لم يكن أحد يعرف بالظروف الراهنة لا في العلاقات العربية الإسرائيلية ولا بالمناخ السائد في المنطقة. ولكن من الجائز أيضا، وخلافا للظروف الآنية، فإن عددا من العوامل قد تكون مشجعة علي عقد المؤتمر منها أن المؤتمر قد باتت له صيغة دورية مهما كانت الظروف وبالتالي فإن انعقاده بات هدفا في حد ذاته مثله مثل العديد من المؤتمرات الإقليمية الأخري. ومن جانب آخر فإن الارتفاعات الهائلة في أسعار النفط والغاز قد خلق قوة دافعة لمناقشة القضايا الاقتصادية في المصرية حيث ارتفعت الدخول العربية العامة، وارتفعت الطاقة علي الاستثمار والرغبة في التجارة. ومما عزز ذلك من جانب ثالث أن عمليات الخصخصة والتحول إلي اقتصاد السوق خلقت المناخ الطبيعي الذي تتزايد فيه الحاجة إلي مثل هذه المؤتمرات. وأخيرا، انه رغم كل الانتقادات التي وجهت إلي اتفاقية "الكويز" علي الساحتين الأردنية والمصرية فقد ثبت أنها اتفاقيات مفيدة لكل الأطراف، وأنها رغم الهجوم السياسي عليها حصلت علي التأييد الشعبي من خلال المطالبة بالانضمام إلي المستفيدين من هذه الاتفاقيات. ولكن أيا كانت الأسباب لعقد المؤتمر فإن ذلك لم يغن عن ترديد نفس المقولات السابقة التجهيز عن العولمة والشرق أوسطية. فالأولي هي سبيل الرأسمالية المتوحشة لامتصاص دماء الشعوب، والإمبريالية الأمريكية للهيمنة علي الأمم، وهي وسيلة الأغنياء لكي يزدادوا غني والفقراء لكي يزدادوا فقرا؛ أما الثانية فهي سبيل إسرائيل للسيطرة والهيمنة أيضا علي الشرق الأوسط. فلا يتغير الكثير في عالمنا كثيرا!