عندما اصدرت كتابي مطلبنا الأول هو الحرية طرزت أسفل غلافه الخارجي بجملة كتبت بخط بارز تكرر "أعيدو دستور 23.. أعيدو دستور 23.. اعيدو دستور 23 الخ.." ذلك لانني كنت وما زلت يائسا تماما من صلاحية أية محاولة لإصلاح دستور 71 المنكود لان ذلك يعني إزالة 90% من مواده. ولكن الصحفي الألمعي صلاح عيسي اصدر منذ مدة كتابا بعنوان "دستور في صندوق القمامة" استكشف به دستور سنة 1954 وذكر قصته بالتفصيل وان لم يكن هو صاحب هذا التعبير، لان صاحبه هو الدستوري الكبير الدكتور وحيد رأفت فانه كان "شامبيون" الدستور الذي انقذه من صناديق كان المعهد العالمي للدراسات العربية وصدر منها كتبا "شونها" وقذف بها إلي بدروم المعهد وأخذ الأستاذ صلاح ينبش حتي وجدها.. ومع ان دستور 54 من ناحية مولده وان السلطة التي امرت بوضعه كانت مدفوعة إلي ذلك لضرورة المناورة كالمناورة التي كانت وراء ظهور دستور 71 فان هناك فرقا شاسعا بين الدستورين بمثل الفرق بين المجتمع المصري 54 الذي كان اقرب إلي الليبرالية ولا يزال يعيش عالمها.. وبين المجتمع المصري سنة 71 بعد ان عاث فيه الانقلاب العسكري فسادا حتي افقده قيمه ومقوماته. وعنمدما نجح ضباط 23 في قومتهم كان من المفروض بمتقضي دستور 23 ان يدعي البرلمان للانعقاد وان تجري انتخابات. وكانت آخر انتخابات 51 التي جاءت بالوفد بأغلبية ساحقة ومع ان هؤلاء الضباط كانوا يكررون انما الحركة قامت لتعزيز الدستور ولاقامة حياة ديمقراطية ألخ.. فانهم بعد ان ذاقوا السلطة وبدفع من مستشاري السوء اعلنوا سقوط دستور 23 واخذوا يتحدثون عن دستور جديد ثم جاءت فترة 54 الفاصلة التي اضطرتهم إلي اصدار قرارات 5 مارس، وبناء علي هذا الظرف الذي كاد يقتلع عبد الناصر.. أمرت الحكومة بتشكيل لجنة من خمسين عضوا لوضع الدستور وكانت لجنة الخمسين التي كلفت بوضع الدستور الجديد تضم ممثلين لكل ألوان الطيف السياسي والفكري في مصر آنذاك وربما حتي الآن كان من بينهم ممثلون لأحزاب الوفد والأحرار الدستوريين والسعديين والاخوان المسلمين والحزب الوطني القديم والجديد وحزب مصر الاشتراكي وحزب الكتلة الوفدية المسقتلة وكانت تضم فضلا عن ذلك أعضاء من لجنة الثلاثين التي وضعت دستور 23 ويعرفون ما به من ثغرات أدت إلي الصراع بين القصر والأغلبية حول سلطة الملك وسلطة الأمة فضلا عن ثلاثة من رؤساء القضاة وعدد من المع فقهاء القانون الدستوري وثلاثة من رجال الجيش والبوليس المتقاعد وشيخ الأزهر وبطريرك الاقباط وخمسة اخرين منهم.. وكانت اللجنة برئاسة علي ماهر باشا. وبعد سبعة عشر شهرا من تشكيلها انهت لجنة الخمسين عملها ووضعت مشروع الدستور وقدمته إلي قيادة الثورة في 15 أغسطس 1954 وهو مشروع يأخذ بمبدأ الجمهورية البرلمانية وينطلق كما يقول المؤرخ طارق البشري من منزع ليبرالي صرف ويضع صياغات رفيعة المستوي حقا تضمن للبرلمان ان يكون مؤسسة الحكم الرئيسية التي تدور حولها كل سلطات الأمة ممثلة في مجلس النواب كتاب الاستاذ صلاح عيسي دستور في صندوق القمامة "ص 34 - 35". وكان الدستور ينص علي ان يكون للدولة برلمان من مجلسي للنواب وآخر للشيوخ وان يكون عدد أعضاء مجلس النواب 270 عضوا ينتخبون بالاقتراع العام السري المباشر يكون مدة دورته أربع سنوات ومجلس الشيوخ يتكون من "أ" تسعين عضوا ينتخبون بالاقتراع العام السري المباشر "ب" ثلاثين عضوا تنتخبهم الهيئات العامة يالنقابات - الأحزاب الخ.." "ج" ثللاثين عضوايعينهم رئيس الجمهورية من أصحاب الكفاءات ورؤساء الوزراء الخ. ومدته ثماني سنوات. ويكون الفصل في صحة عضوية أعضاء المجلس من اختصاص المحكمة الدستورية حتي لا يكون المجلس سيد قراره ويعطنا القط مفتاح الكرار وتعرض كلها علي المجلسين ويناقش مجلس النواب الميزانية بابا بابا. ومجلس الوزراء مسئول أمام البرلمان وللبرلمان حق مساءلة وسحب الثقة من الوزارة كلها أو من أحد وزرائها وعندما يحدث هذا يجب استقالة من سحبت الثقة منه وينص الدستور علي محاكمة رئيس الجمهورية إذا ارتكب ما يبرر ذلك بقرار أحد المجلسين بأغلبية الأعضاء وتتم المحاكمة امام المحكمة الدستورية العليا. وحظر الدستور محاكمة أحد أمام محاكم خاصة أواستثنائية وكذلك محاكمة مدنيين أمام محاكم عسكرية. وحرم دخول البوليس المنازل ليلا إلا بإذن من السلطة القضائية كما ينص علي ان من حكم عليه بحكم نهائي خاطيء الحق في المطالبة بتعويض من الدولة. ونص في الدستور علي أنه لا يجوز تقييد اصدار الصحف بترخيص ولا يجوز الرقابة عليها أوايقافها أومصادرتها بطريق إداري. وقيد الدستور حق رئيس الجمهورية في إبرام معاهدات وانها لا تكون نافذة إلا بعد تصديق مجلس النواب عليها وهناك فصول كاملة في الدستور عن الحكم المحلي وضماناته والمحكمة الدستورية العليا "المجلس الاقتصادي". كما نصت المادة 195 علي ان الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها.. المأساة هي أنه ما ان تمت اللجنة وضع دستورها وقدمته إلي الحكومة حتي كانت الحكومة احكمت قبضتها علي الشعب وبدأت المسيرة التي انتهت بعبادة الفرد ومن ثم فقد ركنته في ركن حتي انهي إلي صندوق القمامة. إن الملاحظة التي تثير التساؤل وتبعث علي الآسي كيف ان كل مثقفينا ومركز الدراسات السياسية في الأهرام وغيره لم ينتبه إلي هذا الدستور حتي استكشفه صلاح عيسي وكيف منذ ان اصدر كتابه سنة 2000 لا نري الإشارة إلي هذا الدستور ولا دعوة لاحيائه وهو علي كل حال مما وضع في عهد الثورة المباركة التي بركتها تحيق بنا. وإذا كان الأستاذ صلاح عيسي قد اقترح علي اللجنة التحضرية للمؤتمر المصري الأول للإصلاح الدستوري في صيف عام 1999 البحث عن هذا الدستور فلماذا لم يتم ذلك وقد اعطي في يدها مفتاح الإصلاح الدستوري ولماذا ظلت المطالبة به حتي الآن صوتا وحيدا في البرية وكيف لم يتبناه رؤساء من الأحزاب العشرين أو الثلاثين أو حتي إحدي منظمات المجتمع المدني. ان المأساة في هذا هي أشد وانكي من مأساة ركن الحكومة له وهي تنم عن مدي الغفلة التي تتملكنا وتجعلنا نغط في نوم عميق. أما آن الأوان لكي تتوحد كل جماعات المعارضة تحت لواء أعيدوا دستور 1954؟ ..