في الوقت الذي أفاد استطلاع للرأي قامت به مؤسسة غالوب أن 51% من الأمريكيين يريدون انسحابا أمريكيا من العراق بحلول نهاية العام الحالي، اتخذ جون كيري موقفه الجديد. فالمرشح الديمقراطي في انتخابات 2004 الرئاسية يدعو إلي انسحاب كامل للقوات الأمريكية في حال عدم توصل العراقيين إلي حكومة وحدة وطنية بحلول 15 مايو المقبل. و حتي في حال تشكيل العراقيين للحكومة، فإن كيري يريد انسحابا كاملا للقوات الأمريكية بحلول 31 ديسمبر. جدار الجليد آخذ في التصدع. ففي الوقت الذي يؤيد فيه نصف الأمة إعادة الجنود بحلول عيد الميلاد، فإن نسبة التأييد بين الديمقراطيين لإعادة القوات حتما ستكون في حدود 60 %. إن كيري يسير في اتجاه قاعدة حزبه و ليس بعيدا عنها؛ فهو يتبني الآن اتجاها مفارقا لجناح جو ليبرمان. ويكشف قرار كيري عن وجود معادلة سياسية تفيد أن السبيل الوحيد لحرمان هيلاري كلينتون من بطاقة الترشح الرئاسية عن الحزب الديمقراطي هو التحرك إلي معسكر اليسار وامتطاء صهوة جواد معاداة الحرب و رفع يافطات معسكر المؤمنين الحقيقيين واليسار المقدس. وفي هذا القطاع الضخم للحزب الديمقراطي، يظل هناك فراغ ملموس لا يملؤه سوي جون مورثا عضو مجلس النواب و السيناتور راس فينجولد. والآن كل ديمقراطي يري نفسه بديلا لهيلاري سوف يجد نفسه مضطرا إلي مواجهة نفسه بالسؤال التالي: ما هي جدوي مناصرة سياسة معسكر بوش ورامسفيلد ورايس وتشيني؟ ربما يعتقد بيل وهيلاري أن تأييد الحرب قد يكون هو الموقف المناسب الذي يتعين أن يتبنياه في إبريل 2006، ولكن عليهما التفكير في كيف سينظر إلي هذا الموقف، الذي يضر بالفعل بمكانة هيلاري في الحزب نظرة الآخرين إليه في غضون عامين من الآن عندما يعقد مؤتمر الحزب الديمقراطي في أيوا لاختيار مرشح الحزب الذي سيخوض الانتخابات الرئاسية. إن تحرك كيري يمكن أن يفجر حالة من الرعب بين صفوف ديمقراطيي الوسط لتأييد وضع جدول زمني للانسحاب، مما سيجبر هيلاري علي إعادة التفكير وسيجبر الجمهوريين علي الوقوف بجانب بوش، الأمر الذي سيجعل من أمر الاستمرار أو الخروج من العراق قضية العام 2006. و فيما قد لا يشعر الرئيس بوش الذي يؤمن بتلك الحرب وبقضية دمقرطة الشرق الأوسط، فيما قد لا يشعر بالضيق تجاه التحول الذي طرأ علي تفكير كيري، فإن حزبه، لاسيما أعضاء مجلس الشيوخ من الولايات التي يسيطر عليها المحافظون من أمثال ريك سانتوريم، وأعضاء مجلس النواب من الولايات المتأرجحة، لا يمكنه الشعور بالتفاؤل حيال إمكانية أن يمثل العراق قضية هذا الخريف. لكن في حال أن يكون الديمقراطيون في طريقهم إلي الاقتراب من الوصول إلي لحظة صدق مع أنفسهم، فإن الحزب الجمهوري سيتعين عليه أن يتعامل قريبا مع الفشل الذي صادف السياسات الولسونية التي تبناها بوش بناء علي نصيحة المحافظين الجدد أو يعمل علي تنحية تلك السياسات جانبا باعتبارها غير مناسبة علي المستوي السياسي. بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، أسقط الرئيس الأمريكي حكم طالبان ودمر تنظيم القاعدة، غير أن أسامة بن لادن لا يزال حرا طليقا وأفغانستان وقعت مرة أخري فريسة لشياطين تجار المخدرات وقادة الحرب وحركة طالبان. ما هو ثمن الديمقراطية في كابول؟ لقد قادت عملية التخلص من صدام حسين إلي تحقيق نجاح دبلوماسي و ذلك عندما تخلت ليبيا عن أسلحة الدمار الشامل في مقابل خروجها من دائرة الدول الراعية للإرهاب، وهي الدائرة التي دخل فيها الرئيس معمر القذافي بعد حادثة لوكيربي. ولكن من يمكنه أن يصدق أن النظام الموالي لإيران، الذي من المؤكد أنه سيعتلي السلطة في بغداد، يستحق ثلاثة أعوام من الحرب و 2300 قتيل و 17 ألف مصاب وما بين 300 و400 مليار دولار من الإنفاق العسكري؟ لقد تسببت الروح العدائية التي يبديها بوش تجاه طهران في اعتلاء الرئيس محمود أحمدي نجاد سدة السلطة في إيران. والمستفيد الرئيسي من الحملة من أجل الديمقراطية هو حكومة تقودها حماس نحاول نحن أن نخنقها عن طريق منع المساعدات عنها. كيف يمكن أن يؤدي وضع 50 ألف شرطي فلسطيني داخل شوارع الضفة الغربية وغزة من دون إمدادهم بالوسائل اللازمة لإعالة عوائلهم كيف يمكن لمثل تلك الخطوة أن تدعم عملية السلام. وأثناء سنوات إدارة بوش دأبت المؤسسة الوقفية لدعم الديمقراطية وعدد من هيئات ومعاهد دعم "السلام"، كما يطلق عليها، والمؤسسات البحثية ذات التوجهات الخاصة علي التدخل في شئون الآخرين من أجل دعم الثورات الديمقراطية في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطي والشرق الأوسط و أمريكا اللاتينية وذلك باستخدام أموال الضرائب التي يدفعها المواطن الأمريكي وهو الأمر الذي اعتادت الاستخبارات الأمريكية فعله بشكل سري خلال الحرب الباردة. غير أن التدخل في الشئون الداخلية لجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق قد تسبب في إثارة غضب موسكو ودفع روسيا إلي التقارب مع الصين و حول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من صديق للولايات المتحدة إلي خصم مرير. وكما كتب أندرو باسيفيتش في مجلة "أمريكان كونسيرفاتيف"، فإن إستراتيجية الأمن القومي التي أصدرتها إدارة بوش أخيرا، جاءت "مليئة بالإعلانات والتوصيات والعموميات المهلهلة... وفي الوقت ذاته لا تحوي أي ذكر للسبب وراء ما نعيشه الآن من فوضي، ولا تشير كذلك إلي أي رؤية للطريقة التي يمكننا من خلالها دفع تكاليف "الحرب الطويلة" التي اخترعها الرئيس باعتبارها الطريق الأمثل لخروجنا من "أزمتنا". وفيما يتعلق بهدفنا المتمثل في "إنهاء حكم الطواغيت من علي سطح الأرض"، كتب باسيفيتش الآتي: "في 2005 مر الجيش الأمريكي بأسوأ تجربة تجنيد خلال ربع قرن. فمن أصل تعداد شعب يبلغ قوامه نحو 290 مليون نسمة، كان لدي الجيش هدف متمثل في إقناع 80000 شخص بالالتحاق بالخدمة العسكرية. ولكن علي الرغم من توافر أموال الإعلانات، وعرض مكافآت الخدمة السخية، وتقليص المعايير والشروط المطلوبة للتجنيد، ألا أن عدد المتطوعين ما برح يقل عن المطلوب بنحو 7000 فرد. لا يمكنك أن تدير إمبراطورية من دون جنود. ويستشهد باسيفيتش بمقولة لورد روثرفورد في الثلاثينات: نحن ليس لدينا أموال، لقد آن أوان إعادة التفكير في الأمر".هل لدي الجمهوريين أي تفكير آخر سوي ذلك الخاص بتبني أسلوب بوش و تحذيرنا دائما من أن نخشي ذئب "العزلة" الكبير؟.