مازالت فصول المواجهة بين واشنطنوطهران حول الملف النووي الإيراني تُلقي بظلال كثيفة من الشك والريبة علي المجتمع الدولي في ظل التقارير الأخيرة التي أفادت أن مسؤولين عسكريين أمريكيين يخططون لشن هجمات علي مواقع إيرانية. ورغم نفي الرئيس بوش لما أوردته التقارير واعتباره ذلك مجرد "تكهنات بعيدة عن الواقع"، فضلا عن تأكيده علي الطرق الدبلوماسية لمعالجة المخاوف بشأن إيران، فإن العقيدة العسكرية لإدارته القائمة علي "الضربات الوقائية" لمنع أية تطورات تؤدي إلي امتلاك إيران للسلاح النووي، مازالت قائمة ولم تتغير. كما أن المسؤولين الأمريكيين مازالوا يصرون علي ترك كافة الخيارات مطروحة أمام الولاياتالمتحدة، بما في ذلك الخيار العسكري. لكن في الوقت الذي يبدي فيه الرئيس بوش انزعاجه من جنوح طهران إلي التصعيد بشأن ملفها النووي، نجده يحث الكونجرس علي تبني إجراءات تنتهك بشكل سافر معاهدة عدم الانتشار النووي من خلال مطالبته للمشرعين الأمريكيين بإجراء تعديلات ستمكن الولاياتالمتحدة من تصدير التكنولوجيا النووية الأمريكية إلي الهند. ومعلوم أن الهند دولة خارج معاهدة عدم الانتشار النووي، وقامت علنا بإجراء اختبارات علي مجموعة من الأسلحة النووية. فهل تعاني الإدارة الأمريكية من انفصام في الشخصية عندما يتعلق الأمر بمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية؟ فهي من جهة تنتقد إيران لعدم التزامها بالمعاهدة، لكنها تعمل علي إضعاف المعاهدة نفسها من خلال مبادرتها المطروحة أمام الكونجرس. والواقع أن إدارة الرئيس بوش لا تعاني من أي انفصام في الشخصية، بل هي منسجمة تماماً مع سياساتها المعلنة. فليس خافياً أن بوش وأعوانه يكنون كراهية كبيرة لمعاهدة حظر الانتشار النووي بقدرما يكنون الكراهية ذاتها لباقي المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي يرون أنها تعرقل حركة أمريكا علي الساحة الدولية مثل اتفاقية "كيوتو" حول الحد من انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون، أو معاهدة روما الخاصة بالمصادقة علي المحكمة الدولية لجرائم الحرب. بيد أن الولاياتالمتحدة التي لم تصادق قط علي تلك الاتفاقات كانت من أشد المؤيدين -حتي هذه اللحظة علي الأقل- لمعاهدة عدم الانتشار النووي وأكثر أعضائها حماسة. ورغم عدم مطالبة بوش والمسئولين في إدارته بانسحاب الولاياتالمتحدة من المعاهدة، إلا أن التعديلات المرجو إدخالها علي التشريعات الأمريكية في مجال تصدير التكنولوجيا والمواد النووية الأمريكية إلي الهند من شأنها، إذا ما صودق عليها من قبل الكونجرس، أن تحدث أزمة حقيقية في العلاقات بين واشنطن وباقي الدول الموقعة علي معاهدة عدم الانتشار النووي، وهي دول تشمل جميع بلدان العالم باستثناء الهند وباكستان وإسرائيل وكوريا الشمالية التي تمتلك أسلحة نووية لكنها تظل خارج المراقبة الدولية. وبينما ينصب التفكير حاليا من قبل المشرعين الأمريكيين وعموم المواطنين علي التغييرات التي يدعو بوش إلي إدخالها علي قوانين حظر الانتشار النووي التي يرجع عمرها إلي خمسين سنة، علينا من جانبنا أن نخضع المعاهدة العالمية لتقييم دقيق لفهم أهميتها في عالمنا المعاصر. وبداية علينا أن نجيب علي الأسئلة التي ما فتئت تطرحها الإدارة الأمريكية من قبيل هل أصبحت القوانين المرتبطة بمنع الانتشار النووي متقادمة وعديمة جدوي؟ أم هل انها مازالت توفر مقاربة فعالة في التعامل مع تلك النوعية من القضايا التي تطرحها إيران حالياً؟ شخصيا أعتقد أن معاهدة عدم الانتشار النووي مازالت تحافظ علي راهنيتها، ومازالت تكتسي أهمية خاصة. فالوكالة الدولية للطاقة الذرية تستطيع إجراء مراقبة ميدانية للمنشآت النووية في البلدان الموقعة علي المعاهدة، بالإضافة إلي إجراءات تفتيشية أخري بالنسبة للدول المشتبه فيها فقط لأن معاهدة عدم الانتشار النووي تسمح لها بذلك. لكن هل تشكل الإجراءات التفتيشية التي تسمح بها المعاهدة دليلاً قاطعاً علي جدواها؟ كلا، فقد تمكنت العديد من الدول الموقعة علي المعاهدة ومن ضمنها كوريا الشمالية وإيران من إطلاق برامج نووية سرية استغرقت من الوكالة الدولية للطاقة النووية سنوات طويلة قبل اكتشافها. ومع ذلك توفر الوكالة الدولية معلومات أساسية تحظي بالمصداقية حول البرامج النووية للدول المشتبه فيها، في وقت تندر فيه معلومات غير مضللة، أو بعيدة عن التوظيف السياسي. وفي هذا السياق نجحت الوكالة الدولية للطاقة الذرية في كشف النقاب عن البرنامج السري لكوريا الشمالية ما حدا بها إلي الانسحاب من معاهدة عدم الانتشار النووي. أما إيران التي تزعم أن أنشطتها النووية موجهة لأغراض سلمية، فهي مازالت خاضعة لمراقبة الوكالة الدولية التي يقوم موظفوها بتفتيش العديد من منشآتها. والأهم من إجراءات المراقبة والتفتيش التي تتم تحت مظلة معاهدة عدم الانتشار النووي توفر هذه الأخيرة أيضا مناخ التعاون الدولي وعقلية احترام الاتفاقات الدولية. فبالرجوع إلي تاريخ بدء العمل بالمعاهدة خلال ستينيات القرن المنصرم نجد أنها نجحت في تأسيس التعاون المشترك بين تلك الدول لمنع بيع التكنولوجيا النووية أو المواد المساعدة علي تصنيع سلاح الدمار الشامل إلي باقي دول العالم التي لا تمتلك ذلك السلاح، وفي الوقت نفسه سمحت لها بمواصلة الأنشطة النووية لأهداف سلمية. واليوم بعدما أظهرت الحرب في العراق الدمار الذي يمكن أن تلحقه السياسات الأمريكية الأحادية، والاستعمال الهائل للقوة العسكرية، تبقي معاهدة عدم الانتشار النووي الضمان الوحيد لتعزيز التعاون الدولي في وجه الأخطار المرتبطة بأسلحة الدمار الشامل بعيداً عن استعمال القوة، أو اللجوء إلي السياسات الأحادية. "عن "كريستيان ساينس مونيتور"