كانت تلك خطوة إيجابية أن تقترح الولاياتالمتحدة علي الإيرانيين إجراء مفاوضات مباشرة معها لأول مرة منذ قيام الثورة الإيرانية سنة 1979 وما تلاها من أزمة احتجاز الرهائن في السفارة الأمريكيةبطهران التي وترت العلاقات أكثر بين البلدين ودفعت بها إلي الجمود والعداء. بيد أن الولاياتالمتحدة التي أبدت مؤخراً ليونة مقارنة مع مواقفها السابقة إزاء الملف النووي الإيراني وضعت شرطاً أساسياً لإنجاح تحولها الدبلوماسي متمثلاً في تعليق طهران لبرنامج تخصيب اليورانيوم الذي يثير مخاوف الدول الغربية وتعتبره مجرد غطاء لاكتساب السلاح النووي. والواقع أن الانفتاح الأمريكي هو محط ترحيب من قبل القوي الأخري الفاعلة في الملف النووي الإيراني، لاسيما الاتحاد الأوروبي وباقي دول الشرق الأوسط التي تعقد آمالاً عريضة علي انتهاء التوتر وتسوية الملف الإيراني بطرق سلمية تُبعد عن المنطقة شبح حرب أخري تهدد استقرار الدول المجاورة. لكن قبل الوصول إلي هذا الانفراج النسبي في التوتر إثر اقتراح الحوار المباشر وموافقة الولاياتالمتحدة عليه كان الملف النووي الإيراني قد دخل مرحلة دقيقة تنذر بأوخم العواقب. ففي ظل تصلب موقف إيران وإصرارها علي تخصيب اليورانيوم واستكمال دورة الوقود النووي بدأت تتسرب احتمالات غاية في الخطورة تتراوح بين السماح لإيران بامتلاك القنبلة الذرية والاعتراف بها قوة نووية كإسرائيل وغيرها، وبين شن حرب أخري لمنعها بقوة السلاح من ذلك، وهو ما وضع المجتمع الدولي أمام خيارين أحلاهما مر: التسليم بالأمر الواقع أو الحرب. ومع ذلك سرعان ما بدأت الدول الأوروبية، وأمريكا نفسها، تستحضر سيناريو الحرب في العراق والعقبة الكأداء التي يواجهها المشروع الأمريكي في بلاد الرافدين بعدما شنت أصلاً بذريعة منع الانتشار النووي. وإذا ما أخذنا في عين الاعتبار اختلاف الحالة العراقية عن إيران لصالح هذه الأخيرة التي تعتبر أكثر قوة واحتمالات صمودها في وجه حرب أمريكية أكثر حدة من العراق بدأت واشنطن تبحث عن بدائل تجنبها مستنقعاً آخر شبيهاً بذلك الذي مازلت تتخبط للخروج منه في العراق. والأكثر من ذلك، أن الولاياتالمتحدة أدركت محدودية قوتها العسكرية، لاسيما وأنها منتشرة في رقعة واسعة بين العراق وأفغانستان قد لا تمكنها من إخضاع إيران ونزع شوكتها النووية. ولا ننسي أيضاً أن حرباً أخري في الشرق الأوسط ستعمِّق أكثر الهوة المتنامية بين العالم الإسلامي والولاياتالمتحدة، وتعزز خطر الإرهاب نتيجة لذلك واضعة عموم الشرق الأوسط فوق برميل بارود قد ينفجر في أية لحظة. وإذا كانت تلك اعتبارات موضوعية تمنع التفكير في تحرك عسكري جديد يؤجج المنطقة ويزج بها في أتون التوتر والصراع، فإن هناك اعتبارات أخري مرتبطة بإيران نفسها. فبالنسبة لطهران، فإنها تنظر إلي برنامجها النووي ك"حق يتصل بالعزة الوطنية"، ومن غير الوارد التخلي عنه بسهولة، لاسيما وهي تتحجج بمعاهدة عدم الانتشار النووي، التي تكفل للدول الموقعة عليها الحصول علي التكنولوجيا النووية لاستخدامات سلمية. غير أن تاريخ البرنامج النووي الذي يعود إلي عصر الشاه، يلقي بظلال كثيفة من الشك والريبة علي النوايا الحقيقية لإيران، ويثير مخاوف الغرب من أن يحول الوقود المخصص لتوليد الطاقة الكهربائية إلي تصنيع القنبلة النووية. وتستند الدول الغربية في مخاوفها إلي تجربة الكتمان والسرية التي أحاطت بالأنشطة النووية الإيرانية طيلة الثماني عشرة سنة السابقة وانتهاك تعهداتها السابقة للترويكا الأوروبية بتعليق تلك الأنشطة. وجاءت تصريحات الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد الاستفزازية حول محو إسرائيل من الخريطة، والتشكيك في المحرقة اليهودية، لتعزز المخاوف الغربية وتثير القلق هناك من النوايا الحقيقية لطهران. ولئن بدا الموقف الأمريكي منذ البداية صارماً، حيث رفعت واشنطن عقيرتها ضد طهران مهددة باللجوء إلي عمل عسكري محتمل لمنعها من امتلاك السلاح النووي، فلقد سلكت الدول الأوروبية، من جهتها، طريق المفاوضات والوساطة الدبلوماسية للتوصل إلي تسوية سلمية للأزمة. لكن إزاء رفض إيران التخلي عن تخصيب اليورانيوم والاستجابة للمطالب الدولية فشلت المفاوضات وتهاوت علي عروشها. ويبدو أن إيران في كامل الإدراك لقوتها الإقليمية الجديدة بعدما استفادت من الحرب الأمريكية علي العراق بإزاحة عدوها التقليدي المتمثل في دولة عراقية مركزية وقوية، فضلاً عن استفادتها من الورطة الأمريكية في العراق واستنزاف قوتها فوق رماله المتحركة. والأهم من ذلك عرفت إيران إلي حد الآن كيف تستغل ورقة الاختلافات الدولية حيال ملفها النووي والعداء الإسلامي لأمريكا قصد تلميع صورتها وتعزيز موقفها لدي المسلمين. ولأن الحرب علي العراق أظهرت هشاشة الدول أمام الآلة العسكرية الأمريكية وعلو كعب هذه الأخيرة في قدراتها التدميرية، اقتنعت إيران بأن السلاح النووي هو الرادع الوحيد الذي يخيف أمريكا ويجعلها تفكر مرتين قبل الدخول في مغامرة عسكرية ضد دولة نووية. ففي الوقت الذي أعلنت فيه كوريا الشمالية امتلاكها للسلاح النووي ورفضت إخضاع منشآتها للتفتيش الدولي ردت أمريكا بمد يد الدبلوماسية إليها؛ بينما العراق الذي نفي حيازته للسلاح النووي ووافق علي التفتيش الدولي لم يحل ذلك دون لجوء واشنطن إلي الحل العسكري معه الذي تبين في النهاية أنه لم يكن حلاً، بل بداية لمشكلة قد تمتد إلي المستقبل البعيد. والمفارقة أن الولاياتالمتحدة في حاجة ماسة إلي إيران لفرض الاستقرار في العراق وحفظ ماء وجهها بعدما تعقّد الوضع في بلاد الرافدين وظهر ارتباك واشنطن الواضح في تعاملها مع العنف العراقي. وإدراكاً لهذا الواقع المعقد والمتشابك بين المصالح الأمريكية في العراق وارتباطها بإيران، سعت الدول الأوروبية إلي إقناع واشنطن بضرورة الدخول في مفاوضات مباشرة مع طهران ومنح ضمانات أمنية للنظام. وما كانت واشنطن لتقتنع بوجهة النظر الأوروبية وتوافق علي إجراء المفاوضات المباشرة مع طهران لولا إقرارها بحصافة الرأي الأوروبي واستحالة حسم الأزمة عسكرياً، وهو ما ترجم علي أرض الواقع من خلال التصريحات المهادنة التي أطلقتها إيران رداً علي المقترح الأوروبي وتعقيب واشنطن الإيجابي عليه